الفردوس يكتب : الاستثمار في الثقة والاستقرار

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس//
لم تكد تمضي أربعة أشهر كاملة على الدعوة الملكية إلى تغيير بعض العقليات البنكية موازاة مع تغيير العقليات الإدارية، بهدف تيسير الولوج إلى الخدمات المالية، خصوصا ما تعلق منها بالقروض الموجهة لحاملي المشاريع من المقاولين الشباب والمقاولات الصغرى والمتوسطة، حتى أطلق جلالته برنامجا عمليا متكاملا ومندمجا لتسريع وتيرة العمل على هذا الورش الإصلاحي الكبير، حيث شهد الأسبوع المنصرم حدثين بارزين في إرساء دعامات تمويل البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات، الحدث الأول تمثل في إقرار خفض معدلات الفوائد إلى أدنى مستوى تفضيلي غير مسبوق في القطاع التمويلي البنكي للمقاولات، والذي حدد في 2 في المائة، والحدث الثاني تمثل في توقيع اتفاقيتين أمام جلالة الملك، تتعلقان بمساهمة صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في برنامج تمويل المقاولات، بزيادة تكميلية تصل إلى 2 مليار درهم تضاف إلى 6 ملايير درهم المبرمجة، وهذه الزيادة هي بدون نسبة فائدة تترتب على المقاولات، خصوصا المقاولات المتواجدة بالعالم القروي.
بهذين الحدثين البارزين اللذين أحاطت بهما الرعاية الملكية بدءا من الاقتراح إلى الإرساء والتوجيه والتأطير، يكون جزء كبير من إشكالات الاستثمار والتشغيل والمتعلقة بعسر التمويل، وصعوبة الولوج إلى الخدمات البنكية، قد حلت في وقت قياسي، وبمبادرة شجاعة غير مسبوقة في اقتحام جُبن الرأسمال، وسلبية الأبناك أمام المخاطرة بالقروض والتخوف من عدم وفاء المستفيدين منها من التزاماتهم المالية بالأداء، وثقل الفوائد وارتفاعها، والتي كانت كلها عقبات أمام الشباب المقاول وحاملي المشاريع الذاتية، خصوصا في العالم القروي الذي ترتفع فيه مخاطر الإخفاق، نظرا للتقلبات المناخية، وعدم التدقيق في المشاريع المضمونة النجاح والقادرة على ربح رهان التنافسية.
لقد قدم الحدثان صورة ناصعة ومشرقة عن ما يجب أن تكون عليه روح المبادرة الوطنية والمواطنة في الانفتاح على انشغالات المواطنين وتطلعاتهم، والعمل على حل المشاكل المستعجلة للتنمية والإنتاج والتشغيل، بالانخراط في المجهود التنموي المواكب لالتزامات الدولة في ضمان الاستقرار وتعزيز الثقة في المؤسسات، والحفاظ على مناصب الشغل، وتنويع مصادر الثروات، ودعم الأفكار والمشاريع التي يحملها الشباب وصغار المستثمرين، وتأهيلهم للاضطلاع بأدوارهم الاجتماعية والاقتصادية داخل الدورة الإنتاجية الوطنية.
كان بإمكان هذه المبادرة التاريخية بكل ما جاءت به من تدابير لصالح التنمية الوطنية، ولفائدة المقاولين الصغار والمتوسطين، ولفائدة الساكنة القروية خاصة، أن تنتظر إلى حين إرساء النموذج التنموي الجديد، الذي هو في طور المشاورات والإعداد، لكن جلالة الملك أبى إلا أن يكسر هذه العقلية الانتظارية التي ترهن مشاريع بعضها ببعض، وتعلق هذه بتلك، إذ من شأن مثل هذه المبادرات العميقة غير القابلة للانتظار والتعليق والرهن، والمرتبطة بالشأن الحيوي للمواطنين وبحركية الدورة الاقتصادية الوطنية، أن تدعم النموذج التنموي الجديد في رؤيته المستقبلية، وأن توجهه إلى مجالات أرحب في تقدير الثروة الحقيقية للوطن، والمتمثلة في موارده البشرية وأفكار أبنائه الخلاقة والابتكارية، وأن تمهد أرضية توافقية وطنية للانخراط الإيجابي، والتعبئة الشاملة من أجل احتضان أفضل لهذا النموذج التنموي.
إن نموذجنا التنموي الجديد في حاجة إلى هذه الروح غير المنقطعة الأنفاس في التتبع والمواكبة ومعالجة الاختلالات وحل المشاكل وتذليل الصعوبات، فما أكثر ما فشلت المشاريع والبرامج وتعطلت الأوراش بسبب مراكمة الاختلالات والأخطاء من غير تتبع ولا تقويم ولا إصلاح.
ولا نخال الرعاية الملكية السامية للاتفاقات الموقعة بشأن برامج دعم المقاولات وتمويلها، بل والإشراف الملكي عليها بالتتبع والمواكبة، وتوفير آليات للتقويم والمعالجة الموازية، والحرص على التفعيل الأمثل لها، إلا درسا بليغا للفاعل السياسي الحكومي في الكيفية التي ينبغي أن تكون عليه إدارة المبادرات الإصلاحية وتوجيه مشاريع التنمية وأوراشها وبرامجها، سواء في تشخيصها لمواطن الضعف، أو في قوتها الاقتراحية وبدائلها، أو في دقة رصد البرامج لفائدة المستهدفين بها، أو في تسريع وتيرة تنزيلها وتتبعها وتسوية مشاكلها.
لعل أبرز ما يمكن تسجيله بصدد الانطلاقة الناجحة والواعدة للبرامج المندمجة لدعم المقاولات، هو استعادة زمام المبادرة والثقة في مشروعنا المجتمعي، والاستثمار ليس فحسب في الموارد المالية والمادية والبشرية، بل في استقرار الوطن وأمن المواطنين، وهما أهم موردين غير مباشرين للتنمية المستدامة والمتوازنة والناجحة في بلدنا.