الفردوس يكتب : التجني على القانون الجنائي

الفردوس يكتب : التجني على القانون الجنائي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

يبدو أن ثمة نوعا من التجني على المشروع التعديلي للقانون الجنائي الذي أعدته الحكومة السابقة، وظلت النقاشات والتعديلات والتدخلات والتشويشات ترافقه إلى أن استنفد جميع أغراضه وأفرغ من محتواه، وصار مجرد مشروع قديم انتهى أمره، إذ جرت تحته مياه كثيرة، وتغيرت العديد من المعطيات المرتبطة بظروفه وسياقاته والفاعلين فيه.

واليوم إذ يعود الحديث عن وجود “بلوكاج” داخل الأغلبية الحكومية يمنع تنزيل هذا المشروع، أو بالأحرى إعادة إحيائه من جديد، فإن أكبر تجن على هذا المشروع، هو هذا الإحياء نفسه، بالنظر إلى أن الأغلبية التي صيغ في عهدها بل والحكومة التي صاغته، قد تغيرت وتعدلت بعد انتخابات تشريعية، وتأسيس أغلبية جديدة، تلتها تعديلات في نسخة ثانية لهذه الحكومة والأغلبية، حيث خرجت أحزاب والتحقت بالمعارضة، ودخلت أخرى في التشكيلات الحكومية في نسختها الأولى والثانية، ومن ثمة فإن الأغلبية الحالية لا تتحمل كلها مسؤولية تحضير مشروع هذا القانون الجنائي بصيغته القديمة، ولا يمكنها بالتالي أن تتحمل مسؤولية الالتزام بتمرير ما لم يكن محل اقتراح منها أو تحضير.

لا يجب إذا أن نلح على الأغلبية الحكومية والبرلمانية الحالية بضرورة تسريع التوافق حول مشروع القانون الجنائي الذي صار في حكم المتقادم، ولم يكن من وضعها ولا اقتراحها، وليست عدد من مكوناتها مستعدة للدفاع عنه. فالطبيعي أنه مع مختلف التغييرات والتعديلات في بنية الحكومة وفي أغلبيتها، يفترض سياسيا وأخلاقيا، أن لا يتم الحديث عن النص القديم لمشروع القانون الجنائي، وكأنه يتجدد طرحه تلقائيا، ما لم تكن مكونات الأغلبية الحكومية والبرلمانية الجديدة قد أخذت علما به، وساهمت كلها في اقتراحه وتحمل مسؤولية الدفاع عنه ودعمه، فقد دخل كل من حزبي الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي في تركيبة الأغلبية الجديدة، وخرج حزب التقدم والاشتراكية في التعديل الأخير، من التركيبة الحكومية، بل إن الوزير الذي يتحمل حقيبة العدل، منتم لحزب الاتحاد الاشتراكي، الذي لم يكن ضمن الأغلبية التي صاغت هذا المشروع التعديلي للقانون الجنائي، وقد صرح في مناسبات عديدة أن هذا المشروع المتقادم، لم تتدارسه الحكومة الحالية، فلِمَاذا الحديث عن “بلوكاج” وعرقلة؟ والحال أن براءة الأغلبية الحالية من هذا المشروع من الناحية الشكلية مفهومة وفي غاية البساطة، ولا علاقة لها بمنازعة في فصول أو بنود من هذا المشروع، وإن كانت واردة، لكن ما هو وارد على مسودة مشروع القانون الجنائي المقترح قديما، أن الحكومة الحالية وأغلبيتها لا شأن لهما به من قريب أو بعيد، اللهم إلا إن كان مكوِّنٌ من الأغلبية السابقة والأغلبية الحالية، يختزل الأغلبية في نفسه، ويعتبر استمراره في الأغلبيتين، هو نفسه استمرار للأغلبية السابقة، وأن وزير العدل في حكومة بن كيران هو نفسه وزير العدل في حكومة العثماني في نسختيها الأولى والمعدلة، وهذا تحكم ذاتي وتسلط لا يقره الواقع، ولا تجيزه قواعد التدبير والحكامة والمسؤولية والمحاسبة.

لقد ذهبت الانتخابات التشريعية لعام 2016 بالحكومة التي قبلها، وعُوِّض وزير العدل الأسبق من الحزب القائد للحكومة ولمشروع تعديل القانون الجنائي، بوزير عدل من حزب أغلبي آخر جديد، ثم صار هذا الوزير نفسه سابقا، بعد التعديل الحكومي الأخير لعام 2019. وكان الأجدر والحال هذه بعد أن وَقَع هذا المشروع القديم لمرتين بين يدي وزيري عدل في تشكيلتين حكوميتين وأغلبيتين ـ إذا كانت الاجتماعات الحكومية قد طرحته بالفعل من جديد ـ أن يعاد تحيينه وتهيئته في إطار توافق جديد بين أغلبية جديدة تضمن مشاركتها في إعادة بنائه وفق قناعاتها ووفق المعطيات والمستجدات في تكوينها وتشكيلتها وبرنامجها المشترك، وليس في إطار منطق استمرارية لا وجود لها. أما تقاذف الاتهامات واستغلال الوقت الفارغ وبنود من مسودة مشروع القانون الجنائي المتقادمة، للتراشق وتبادل التهم، والاصطياد في الماء العكر، والتلبيس على المواطنين لكسب تعاطفات وهمية على أبواب الانتخابات، فلا يعبر إلا عن تلاعب وعبث بالمسؤوليات.

ليس من الأخلاق ولا من الحكامة السياسية أن تُقاد معركةُ الإصلاح، بما فيه إصلاح القانون الجنائي، بكل هذه المناورات والتلبيسات الانتخابوية الصرفة. والحقيقة أن سوء تدبير الحكومة لملف إصلاح القانون الجنائي بتحيين توافقاتها الجديدة المبنية على معطيات التغيير والتعديل الحكوميين اللذين شملا مناصب المسؤولية، كما شملا الأغلبية البرلمانية، يفرض احترام ذكاء المواطنين وعدم الزج بنقاش قانون حيوي، وعلى درجة كبيرة من الأهمية الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية، بل والأخلاقية، مثل القانون الجنائي، في دسائس وخدع الاصطفاف والتصنيف السياسي المشبوه والمغرض داخل الأغلبية الحكومية بين مصلحين طهرانيين ومفسدين أنجاس.

اترك تعليقاً

Share via