الفردوس يكتب : التعويل على الذكاء الاجتماعي للمواطنين
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
من المرتقب بعد ساعات الحسم في قرار رفع الحجر الصحي أو على الأقل تخفيفه، خصوصا بعد ارتفاع المؤشرات الإيجابية والمطمئنة للشفاء والتعافي من هذا الوباء، والتحكم التدريجي في حركة انتشاره، وتضييق مساحة عدواه. ولعل الحذر الشديد الذي تتعامل به السلطات الحكومية المسؤولة مع مسألة رفع الحجر الصحي يكشف عن أننا ما زلنا بعيدين عن اعتبار المعركة مع هذا الوباء الخطير قد حسمت لصالح عودة أمور الحياة العامة إلى ما كانت عليه قبل ظهوره، ولذلك تبدو تسمية “ما بعد كورونا” المتداولة إعلاميا أبعد بكثير عن وصف المرحلة الجديدة والدقيقة التي ننعطف إليها بدقة، إذ لا يعني رفع الحجر أن الوباء قد ارتفع وصار له ما بعد، ولا ينبغي إحداث هذا الربط أو الترابط الميكانيكي بينهما، فرفع الحجر ما هو إلا مرحلة ثانية من مراحل تدبير التعامل مع الوباء، بعد تدريب المواطنات والمواطنين خلال فترة الحجر الصحي على مجموعة من السلوكات الاجتماعية والصحية التي تسمح لهم بالخروج إلى الحياة بمناعة أقوى، وبيقظة بالغة وتامة، وبإعداد نفسي وبدني قوي لمواجهة مرحلة متقلبة في حياتهم ومليئة بالتحديات.
ليس مسموحا في مرحلة رفع الحجر الصحي أو تخفيفه، أن نعود إلى اختلاط بعد عزل، أو احتكاك بعد مباعدة، فكل ما يمكن أن ينشأ عنه توفير البيئة الخصبة لنمو الوباء اللعين سيظل محل منع وحجر وحجب، فالمطلوب الذهاب إلى الأمام والسير قدما في درب محاربة هذا الوباء إلى حين القضاء نهائيا عليه، ولن يكون ذلك بين عشية وضحاها أو رهن قرار أو تصريح حكومي، بل هو حصيلة مسلسل متدرج طويل بقدر طول مدة احتضاننا وحضانتنا للفيروس الوبائي، ورهن ما سيقرره المواطنات والمواطنون أنفسهم بشأن مستقبلهم مع “كورونا”، أي أن مرحلة رفع الحجر الصحي هي مرحلة تقاسم المسؤوليات في تدبير الوباء وتحويل الموانع والحواجز والرقابات الخارجية إلى سلوك مستدمج وضمير حي ورقابة داخلية تشرف على تنظيم السلوكات والمعاملات الجديدة للأفراد والجماعات.
إن الانتقال من شعار ” ابق في دارك” المناسب لمرحلة الحجر الصحي المنزلي، إلى شعار “رد بالك” المناسب لمرحلة ما بعد الحجر المنزلي، يختزل الفلسفة التربوية لتدبير مراحل التصدي للوباء، فالشعاران يصفان عملية نقل هذه السلطة الرقابية والمسؤولية عن النفس وعن الآخرين من الإدارة إلى المواطن، فزمن ما بعد الحجر الصحي زمن تحكيم قيم المواطنة والقيم المدنية في التدبير الذاتي والتلقائي لفضاءات التحرك والعمل والتنقل.
“رد بالك” تعني أن المواطن الخارج من الحجر الصحي المنزلي، سيحمل حذره ومسؤوليته عن تصرفاته معه حيثما ارتحل وانتقل، وأن الكرة الآن بيده بعد أن كانت بيد السلطات المسؤولة التي فرضت الأمن وزجرت المخالفات وحمت الإجراءات والتدابير الصحية من عبث العابثين، واليوم ينتقل جزء من هذه السلطة الرقابية إلى المواطن ليتحمل مسؤولية رعاية حريته بنفسه، وترويض نفسه بنفسه، ونهيها عن المخالفات، وكأن فترة الحجر كانت مدرسة لمعرفة قيمة الحياة، وأنه لا يتخرج من هذه المدرسة إلا من نجح في ترجمة دروسها إلى سلوكات أخلاقية جماعية حكيمة وراشدة وناضجة… فإن رسب في أول الطريق عاد إلى مدرسة الحجر الصحي من جديد، حتى يستقيم سلوكه ويتعدل، وسيكون ذلك طبعا، بتكلفة قاسية سواء في الجهد أو المال أو الوقت، نتمنى أن لا نُمْتَحَنَ، بعضُنا أو كلُّنا، بمحنة العودة إلى مقاعد الحَجْر، بسبب من سلوك متهور أو تصرف طائش أو سوء تقدير للعواقب والمسؤوليات… ونتمنى أن يغتنم الجميع فترة التجريب بعد التدريب التي نسميها مرحلة رفع الحجر الصحي، لتجسيد قيم التضامن والتآزر، والتعبير عن سلوكات إيجابية تنخرط في التعبئة الجماعية لدعم المكتسبات واستدامتها، والتقليل من الخسائر، وإعادة تشغيل عجلة الإنتاج الوطني.
لا يعني تحميل المواطنين مسؤولياتهم في وقاية أنفسهم وذويهم والمحيطين بهم، من العدوى، في فترة ما بعد الحجر المنزلي، أن السلطات الإدارية والأمنية والصحية وسائر الأجهزة والمؤسسات، ستنسحب بعد التخفف تدريجيا من قيودها وحضورها، وستتخلى عن أدوارها الطلائعية في تدبير هذه النازلة، بل ذلك يعني أن الفرد امتداد للمؤسسة وأن سلطة الفرد على سلوكه وتصرفاته وأخلاقه ومعاملاته أقوى من أي سلطة أخرى خارجه، ولذلك يتعين على مدبري السياسات العمومية أن يغتنموا فرصة حلول هذا الوباء وما نجم عنه من آثار وانعكاسات، لتكريس التربية على المواطنة، ومحاربة السلوكات اللامدنية في كل مناحي الحياة، تأهيلا لمواطن الغد المعول عليه في وراثة صرح الأمة المتين.
إن بناء المواطن والنهوض بتثقيفه وتعليمه وتربيته، وتمكينه من سائر حقوقه وحرياته، وتأهيله للحياة، هي كلها غايات كبرى ومستعجلة، في مرحلة ما بعد الحجر المنزلي، وليس التخطيط للإقلاع الاقتصادي ومعالجة اختلالات المقاولات المنتجة، بأولى من التخطيط لترميم ذوات طالها التخريب والتشويه والمسخ، والحال أنها رافعة قوية للتنمية، بل إن كل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية ستظل مجرد تفاصيل صغرى أمام التحدي الكبير الذي كشفت عنه نازلة “كورونا”، ألا وهو تحدي إصلاح المواطن وبنائه وتأهيله لتحمل مسؤولياته والوفاء بالتزاماته، والرهان عليه بالتالي في الانخراط الطوعي الفردي والجماعي في كل العمليات التي تهم التعبئة لخدمة الوطن.
إننا في أمس الحاجة في فترة رفع الحجر الصحي إلى التعويل على الذكاء الاجتماعي للمواطنين من أجل مواصلة جهودنا في الحد من انتشار الوباء، والحد من تداعياته الاقتصادية والاجتماعية. وأعتقد أن إحداث مرصد وطني للمواطنة والسلوك المدني يضع ضمن هياكله خلايا لرصد سلوكات المواطنة والسلوكات المدنية في هذه الفترة العصيبة التي نجتازها، من شأنه أن يقدم لنا صورة واضحة عن المواطن المغربي الذي يتشكل الآن ويعاد بناؤه في ضوء تداعيات هذا الوباء، وفي ضوء ما يستدعيه من معاملة وسلوك.