الفردوس يكتب : التمادي في الابتزاز
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
ليس النزاع بين منظمة العفو الدولية المعروفة اختصارا بـ”أمنستي”، والمغرب، حول تقريرها الأخير الذي اتهم المغرب بالتجسس على هاتف صحفي، نزاعا بين منظمة حقوقية ودولة متهمة بانتهاكات، بل بين هذه المنظمة والحقيقة التي تفتري عليها، وذاك أن منازعة المغرب لم تكن حول استهدافه أو التدخل في شؤونه الداخلية، بل حول الدلائل التي تملكها المنظمة لإصدار الحكم الذي أصدرته، ولإقرار واقعة الانتهاك، وإلا بطلت الدعوى، وتحولت إلى استهداف للحق في الخبر، وللحق في المعلومة من مصادرها المؤكدة.
وهذا الذي ذكرناه هو ما تحاول العديد من التدخلات المحلية والدولية لهذه المنظمة الالتفاف عليه، في إجاباتها عن سؤال الدليل، وفي دعوتها إلى تقبل الانتقاد والعمل على إصلاح الخطأ والانتهاك من قبل الدولة المتهَمة، وليس هذا جوابا بقدر ما هو تمادٍ في الاعتزاز بالأخطاء الأخلاقية والمنهجية التي انتهكت بها المنظمة الدولية قيم الحياد والتجرد والموضوعية والمصداقية، وحقوق الإنسان والدول والشعوب في معرفة الحقيقة، وفي الدفاع عن أخلاق النقد والتحقيق النزيه والمجرد من الأغراض المبطنة والمبيتة.
كان بإمكان المغرب أن يصمت ولا يرد على هذا التقرير، أو يعلن باختصار رفضه له، كما تفعل العديد من الدول التي تستقبل تقارير هذه المنظمة بلا مبالاة وبتجاهل تام، لولا أن المغرب منخرط جذريا في تحسين أدائه الحقوقي وفي توفيق جهوده في مجال دعم حقوق الإنسان وتوسيعها، وطي صفحات انتهاكها، مع القوانين الدولية، ويحسب أن مثل هذه المنظمات الدولية والمحلية غير الحكومية، شريك استراتيجي في رصد الانتهاكات وإرساء السلوكات الحقوقية وتنميتها على الصعيدين المؤسساتي والمجتمعي، ولهذا السبب لم تتجاهل الدولة ولا الحكومة تقرير منظمة “أمنستي” وعملت على ربط الاتصال بها عن طريق مراسلات رسمية تلتمس من المنظمة مدها بأدلة الانتهاك التجسسي الذي زعمت رصدته، فقابلت المنظمة المذكورة هذا الطلب الطبيعي والمشروع سواء من المغرب، أو من أي بلد ديموقراطي وحقوقي متعاون مع المنظمة، بكثير من التجاهل والتطاول، وبمزيد من الاستفزاز، وإرسال عبارات توبيخية شديدة اللهجة لا تليق بمعاملة دولة وشعب، تخلصا من سياسة الوصاية والحماية، منذ زمان، واسترجعا سيادة البلد على أرضه وعلى اختياراته الديموقراطية والحقوقية، قبل أن ترى هذه المنظمة النور.
كما عمدت المنظمة المعنية إلى تحريك طوابير ممن يدينون بالولاء لعقيدة الهجوم الدائم على المغرب، والتربص به في منعطفات حاسمة من تاريخ نهضته.
لقد تساءلنا في مقال سابق عن المشكل والضرر في أن تجيب منظمة “أمنستي” الحكومة المغربية عن الذي طلبته من الأدلة عن انتهاكاتها الحقوقية، فتقدمها وتبسطها، وتسألها عن ماذا ستفعل لوقف هذا النزيف الحقوقي. فتبين أن المنظمة لا تملك فحسب هذه الأدلة الدامغة المطلوبة، وأنها لا تنطلق أصلا من أدلة ووقائع مؤكدة ومتحققة ومحقق فيها، بل من أهداف محددة ومدروسة، بسطها خبراء أجانب في نقدهم لعمل المنظمة الدولية، ولانحيازاتها التاريخية المعروفة، وللوبيات المتحكمة في دواليبها وقراراتها، وآخر هؤلاء الخبراء والمحققين والمحللين، الخبير الفرنسي في الذكاء الاقتصادي، كريستيان هاربورو، الذي صرح بشأن الاتهامات الأخيرة الصادرة عن منظمة “أمنستي” ضد المغرب، أن “ممارسات هذه المنظمة ضد المملكة تندرج في إطار استراتيجية هدامة واسعة النطاق تطال أوروبا، ولا تستثني إفريقيا، وتهم المغرب العربي، والتي تشكل المنظمة غير الحكومية حلقتها الداعمة”.
إنا نعلم بالخبرة وبالتراكم التاريخي، أن ملفات حقوق الإنسان ودرجة الحساسية الإنسانية الكبيرة والشديدة لانتهاكاتها، يعتبر من أهم المداخل، بل الآليات التي تستخدم في الخصومات السياسية، وفي إسقاط الدول أو هدم المؤسسات أو الإضرار بمصالح الشعوب، فكم دولة سقطت في فتن هذا الاستغلال البشع لملف حقوق الإنسان، ودخلت عليها الفتن والمحن من كل الأبواب وارتكبت في حق أفرادها وشعوبها أعتى الجرائم والمجازر، دون أن يسمع بعدها كلمة حق لهذه المنظمة التي أركبت الساسة والجيوش ودباباتهم الثقيلة على ظهورها. تنتهي اللعبة الحقوقية بسقوط من أريدَ إسقاطه، وهدم ما خطط لهدمه، ويترك للطابور الخامس أن يكمل المهمة. من غير سؤال حقوقي ولا هم يحزنون.
الذي نؤمن به كغيرنا من الأحرار في كل العالم، أن منظمة “أمنستي” ليست مؤسسة فوق المساءلة والمحاسبة على انتهاكاتها للحقوق وللمسؤوليات وللحقيقة المفترى عليها، وليست فوق السؤال نفسه عن تقديم أدلة أو عن مدى إصلاح خطأ.
لقد وَضَع السؤال المغربي: ـ شكرا على رصد انتهاكاتنا الحقوقية، لكن أين الدليل؟ منظمة أمنستي في موقف أخلاقي أمام ضميرها وأمام التاريخ، للجواب عنه، وتأكيد مصداقيتها، أو الاعتراف بالخطأ، مع تصحيحه والاعتذار عنه، وتبديد كل الشكوك في النوايا، وعدم التمادي في الاعتزاز بما ثبت لديها من خطأ. وما لم تفعل ذلك واكتفت بمثل خرجاتها الاستكبارية والاستعلائية والترهيبية، فضلا عن إرسال رسائل مشفرة ومبطنة للتخويف، أو لصب مزيد من النار على نزاع المغرب معها، وإمعانها في رفض الرد على مطالبه وأسئلته، فإن سؤال مصداقية دعاوى النزاهة والحياد والاستقلالية والموضوعية، هو الذي سيطرح نفسه بحدة على هذه المنظمة الحقوقية لتواجهه إن عاجلا أو آجلا، وسينخر الكذب والزيف والتهم المرسَلة بدون دليل، آخِرَ قواعدها ويدك معاقلها وتحالفاتها، إلى أن ينكشف ما خفي منها أمام العالمين، وتسقط وتذهب من تلقاء نفسها، أو تصلح من حالها: “كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.