الفردوس يكتب : الحاجة إلى مناعة ثقافية أوّلاً
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
بعد خطباء الفتنة ودعاة على أبواب الشر، الذين قعدوا وراء شاشاتهم يكيلون الشتائم للناس ويشمتون في ما أصاب العالم من جائحة فيروس كورونا، ويتوعدون بالويل والثبور من فرقوا الجماعات وأغلقوا محلات التجمعات بما فيها دور العبادة والمساجد، ويتباكون على صلوات الجماعة وأجور شهودها وحضورها، خرج عشاقهم وتلامذتهم المخدرون بخطابات التحريض على الكراهية وشق الصفوف والتمرد على القانون وتحقير المؤسسات، في العديد من المدن ليعبروا عن قمة الغباء في زمن الوباء، حيث نظموا مسيرات ليلية حاشدة جابت الأزقة والأحياء، ظاهرها الدعاء والابتهالات، وباطنها ابتزاز العواطف الدينية للمواطنين والزج بهم في فتنة وفوضى وخدمة أجندة مكشوفة ضد مؤسسات البلاد وأمنها واستقرارها، في الوقت الذي انخرطت فيه كل فعاليات الأمة في دعم مجهود الدولة من أجل التصدي لهذا الوباء الخطير.
إن أقل ما يمكننا أن نصف به سلوك هذه الحشود التي تصرخ في كل الاتجاهات وتنشر الرعب في الأحياء، وتنثر الفيروس بين أفرادها، وهي تعلم أن ما تقوم به ممنوع ومجرم ومحرم شرعا وقانونا، هو أنه سلوك إجرامي وعدواني وانتحاري مع سبق الإصرار والترصد، يهدد حياة المغفلين والجهلة الذين التحقوا بهذه المسيرات والتجمعات بدون مبرر، كما يهدد حياة المئات والآلاف من المواطنين الذين يحتمل أن ينقلوا إليهم عدوى الوباء بعد تفرقهم في الأحياء، وأن يفجروا الفيروس المحمول المفخخ بين الآمنين والأبرياء.
إن أوصاف الاستفزاز والابتزاز والتهور والغباء والجهل والتنطع لا تكفي لنعت حقيقة هذا السلوك اللامدني وغير المواطن الصادر عن جهات تكن حقدا دفينا للدولة وللمجتمع، وتتربص بهما الدوائر، وتفرح لأحزان مواطنيها وتحزن لأفراحهم، وتعرف ما تقوم به وما تقصده بدقة، فبإصرارها على تحدي قرارات حظر التجمعات وفرض حالة الطوارئ الصحية، تكون قد وضعت نفسها في دائرة الإرهاب والجريمة. أما المغرر بهم من الأغبياء والجهلة وما أكثرهم ممن تعاطفوا مع هذه المسيرات الضالة المضلة، أو ممن شاركوا فيها مسلوبي الإرادة والوعي، فإنهم كشفوا لنا بالفعل عن حجم المسؤوليات الكبيرة التي تنتظرنا، أحزابا سياسية وهيئات مدنية وجمعوية ومثقفين ومفكرين وإعلاميين ومربين، بعد انقشاع سحابة هذا الوباء، لإعلان حرب جديدة ومغايرة على فيروس الجهالة الذي يفتك بعقول شبابنا ويمنعه من بناء مواقف إيجابية ونقدية بناءة في الحياة، ومن تبني سلوكات مدنية سليمة، ومن الانخراط في المجهودات الجماعية للرقي بوطنه وبوعي مواطنيه.
لا شك أن الزمن القادم ما بعد كورونا، سيكون لدى جميع شعوب العالم محطة للمراجعة والمحاسبة، ووقفة مع النفس لتصحيح عدد من المسارات الخاطئة والمنحرفة في التربية الصحية والسياسية والدينية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، ينبغي أن نستغلها نحن للقطع مع القيم الانعزالية والانغلاقية والعدوانية التي تنبت وتتجذر في هوامش المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي والتنموي، تلك القيم الهدامة التي نرى أنها كانت سببا في سرعة استجابة شباب مغفل مستغفل لخطباء قادوهم بسهولة وبالدين إلى العصيان والتمرد، وحرضوهم على خرق القانون وتهديد السلامة الصحية للمواطنين، وأغلب هؤلاء الشباب إما غارق في المخدرات لا يعقل ما حوله، وإما يتخبط في الخرافة والجهل وإغراءات خطاب العدمية والتسطيح الديني.
إن أمامنا مهمة تاريخية، بعد عبور هذه الأزمة الصحية بسلام، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أخلاق المواطنة وقيم التعايش والتضامن التي لم يحترمها أولئك الموتورون والأغبياء، كما لم يحترموا التحذيرات والنصائح والتوجيهات والقرارات المسؤولة والقوانين المنظمة لفترة الطوارئ الصحية، هذا في وقت الشدة التي تدعو فيها الحاجة إلى ترك كل النقاشات والمجادلات والمخالفات جانبا، من أجل التفرغ الجماعي لتدبير مصيبة حلت. فإذ لم يحترمنا هؤلاء المضللون والفتانون وقت الشدة وأخرجوا قرونهم في عز الأزمة والانشغال بها عنهم، وتسلطوا على شباب غفل ركبوا ظهره وطافوا به الأزقة تمهيدا لغزوة أو قومة أو ثورة من فوق جثت ضحايا الوباء والغباء، فماذا ننتظر منهم وقت الرخاء، غير معاكسة قيمنا التضامنية الجماعية، بمزيد من التشويش والتشويه والتعكير والكراهية.
كم كان المحرضون على التجمهر والتجمع بحجة الدعاء والتهليل والتكبير والابتهال، متعطشين لسقوط ضحايا ينفخون بها إحصاءات قتلى الفيروس الوبائي ويساهمون معه في تسريع وتيرة القتل وتصعيده، فهم لا ينتعشون إلا في الأوبئة والكوارث ووسط الحروب والدماء والأشلاء، وتمثل المآسي البشرية بالنسبة لهم خير أرضية للاستقطاب لمشروعهم الدموي والتكفيري والإرهابي، وللتدليل على فناء العالم وقبح الإنسان والحضارة الإنسانية، وللتنفير من الحياة والتحريض على الموت والقتل.
بعد انكشاف الوجه الأقبح لهذه الانتهازية التي لم تحترم لحظة عصيبة من تاريخ ألَمِنا الجماعي، يتعين علينا مستقبلا تدبير خطة عمل لمواجهة خطاب الكراهية، تتكون من قطبين: قطب أمني بمزيد من الحزم والصرامة والشدة في الضرب بيد من قانون وحديد على كل من سولت له نفسه خرق القانون أو تهديد أمن الوطن والمواطنين، وقطب ثقافي وفكري، وهو الأهم، يتم فيه إدخال مجموعة من أبناء الوطن الذين يرزحون تحت نير الجهل والتخلف والعنف في حجر ثقافي وتربوي وتوعوي، يتعلمون فيه قيم التعايش والتسامح والتضامن وأخلاق الحوار والنقاش والجدال والدفاع عن الحقوق وأداء الواجبات، ويحصلون فيه على حصانة فكرية ضد الاستغلال والاستغفال ومناعة ثقافية ضد الغباء والاستغباء.