الفردوس يكتب : الحكومة تواصل مسلسل زعزعة الثقة
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
في يناير من العام 2018 أصدرت المجموعة المهنية للأبناك المغربية مذكرة تُوقِفُ بموجبها عمليات الحجز على الحسابات المصرفية للمقاولات والشركات، أو الاقتطاع الإجباري منها والمعروف اصطلاحا بـ”ATD”، لفائدة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وذلك بعد تصاعد ردود الفعل على هذه الممارسة التي هددت الثقة بين الأبناك المؤتمنة على ودائع أصحاب الحسابات، وصارت مصدرا مقلقا للفاعلين الاقتصاديين الذين تعاني مقاولاتهم من معضلات تسوية ديونها والتزاماتها الضريبية، وأمام صناديق الضمان الاجتماعي، فضلا عن ما شملته من خروقات في عدم الاختصاص في القيام بهذا الإجراء، ومن غير إشعار أو اللجوء إلى تسويات تدريجية وتفاوضية تدرأ عن هذه العملية ما لا تحمد عقباه من أضرار على النسيج المقاولاتي الوطني، وعلى الثقة في المؤسسات البنكية والمصرفية، ومن خسارات المعاملات المالية الرائجة تحت سقف القانون.
واليوم إذ تقوم الحكومة باتخاذ نفس الإجراءات الضريبية الإجبارية تجاه الملزمين بأداء الضرائب، بإشراك الأبناك والمؤسسات المصرفية في الحجز على الحسابات والأرصدة والاقتطاع القسري منها، دون تمكين الملزمين من جميع الفرص والضمانات الممكنة من أجل التسوية التلقائية لوضعيتهم تجاه إدارة الضرائب، تكون قد أدخلت البلاد إلى أزمة اقتصادية حقيقية، بدأت بوادرها تلوح منذ أشهر، بعد صدور مذكرة الإدارة العامة للضرائب تنص على تحصيل الديون العمومية المترتبة على الخاضعين للضريبة، بالاقتطاع الإجباري المباشر من الحسابات المصرفية لهؤلاء، والحجز عليها. ورغم أن المديرية العامة للضرائب إلى جانب الخزانة العامة للمملكة تحملان صفة الاختصاص في تحصيل هذه الضرائب والديون والأموال، بإجراء مسطرة الاقتطاع والحجز على الحسابات المصرفية، إلا أن إخراج الحكومة لهذا التهديد والإجراء الزجري، في مواسم الشدة والأزمة والهشاشة الاقتصادية، والبحث عن أكباش فداء لملء الصناديق الفارغة للميزانية الحكومية، يكشف عن أن الحكامة الضريبية لم تتحول بعد إلى ثقافة عامة وتربية مواطنة متشربة من الجميع، وإنما هي سيف مسلط على الرقاب يمكن تحريكه في أي مناسبة وبأي آلية أو أسلوب ينعش ميزانية الحكومة في موسم الندرة والخصاص، ولو أَقفلَ مقاولات وأضر بالمصالح المالية لأصحاب الضائقات المالية الذين تتنفس مقاولاتهم تحت الجمود والإكراهات بما فيها إكراهات تسوية الديون والالتزامات الضريبية التي كانوا يأملون من الحكومة أن تساعدهم على الوفاء بها، وأن تضمن لهم انخراطا سليما إيجابيا وتدريجيا في تسويتها بكل الوسائل الممكنة غير اللجوء إلى رؤوس أموالهم أو حساباتهم المصرفية الجارية للحجز عليها أو الاستحواذ على أرصدتها أو تعطيلها. ورغم أن هذه الاستحقاقات الضريبية يجب أداؤها وسدادها من قبل الخاضعين للضريبة وجوبا، ورغم أن القانون يخول لإدارة الضرائب التوجه إلى الأبناك وإلى الحسابات البنكية المودعة لديها، لجبي ضرائبها على الملزمين بها، إلا أن الحكامة السياسية الضريبية تفرض مراعاة ردود الفعل العكسية من المسارعة باتخاذ إجراء ضريبي قاس وصارم، هو آخر ما يمكن اللجوء إليه، في مواجهة التهرب الضريبي، وفي ظرفية اقتصادية هشة ينبغي إحاطتها بكل ما يلزم من احترازات وتصحيحات وتدخلات تمنع الانتكاس بها وإصابتها في مقتل. وهاهي المراهنة الحكومية على هذا الإجراء، الذي جاء في غير وقته، بمد اليد إلى الحسابات البنكية للخاضعين للضرائب، تؤتي أكلها العكسي بتذمر الأبناك من زعزعة الثقة فيها، وبموجة من الذعر والتخوف والاستياء في أوساط الفاعلين الاقتصاديين، وبسحب عدد من الأشخاص والمقاولات والشركات لأرصدتها البنكية وتهريبها بعيدا عن أعين المراقبة والمحاسبة.
لقد نصت كلمة السيد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أمام مجلسي البرلمان بمناسبة تقديم مشروع قانون المالية لسنة 2020، على الرهان على إعادة الثقة في المؤسسات المالية، وعلى الدفع في اتجاه التسوية التلقائية للوضعية الجبائية للخاضعين للضريبة الذين لم يؤدوا ما بذمتهم لسبب أو لآخر، وعلى دعم وتعزيز الانخراط الطوعي في الأداء الضريبي، وكان ينبغي دعم هذا التوجه بإبداع أساليب وآليات جديدة ومبتكرة ومناسبة ومتدرجة لمكافحة كل أشكال التهرب أو التملص الضريبي، وتحويل سلوك أداء الضرائب إلى ثقافة عامة ومواطِنة سهلة ويسيرة، ويكون جَبْي الضرائب نفسه سلوكا مواطنا يحرص على أموال المواطنين وممتلكاتهم بقدر حرصه على الأموال العمومية، ويحرص على دفع الأضرار قدر حرصه على جلب المصالح، هذا إن لم يكن الأصل هو تقديم دفع الضرر على جلب المصلحة كما تقتضي القاعدة الفقهية، وذاك أن الموازنة بين ضررِ عدمِ تحصيل بعض الضرائب، أخف وأهون من ضرر تحصيلها بالإجراء الحكومي الجبري المذكور، ويكفي النظر إلى ما تسبب فيه هذا الإجراء من فقدان عدد من الأبناك لسيولتها المالية، ومن إحجام المودِعين عن إيداع أموالهم بحساباتهم المصرفية، ومن سحب متصاعد لأرصدتهم المالية من الأبناك، ومن عودة لانتشار المعاملات المالية التجارية خارج الرقابة وخارج التداول البنكي. فهل كانت الحكومة تعي هذه العواقب الوخيمة لإجراءاتها الضريبية؟ وهل احتسبت لمخاطرها ولتدبير هذه المعضلة التي أحدثتها؟ لا شيء، في ظل انتكاسة المعاملات البنكية وضمور السيولة، يشي أن قلب الحكومة يخفق لهذه الكارثة، فيما عينها على الأرصدة والحسابات البنكية لاقتطاع أموال لخزينتها ولميزانيتها.
لقد كان في المبادرات الملكية من أجل دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة وحاملي المشاريع، والتدخل لدى الأبناك للانخراط في تمويل المشاريع الاستثمارية بخفض الفوائد، وتعزيز الثقة بين الأبناك والدولة وأصحاب المشاريع، أسوة للحكومة في توطيد الاستقرار والتنزيل السليم والهادئ للقرارات والإجراءات التنموية والمالية والاجتماعية، في ظرفية الانكماش الاقتصادي والمالي.
إن المطلوب من الحكومة أن تفتح حوارا مع المعنيين بهذه الإجراءات “الزجرية”، وأن تنفتح على هموم المقاولات، وأن تسهم من موقعها في تذليل صعوباتها، وأن تنخرط في كل العمليات التي تستهدف التخفيف عليها من الضغوطات والإكراهات التي تحول بينها وبين الوفاء بالتزاماتها التنموية والضريبية. ثم إن من حق الحكومة أن تفتح ملفات التهرب الضريبي على مصراعيه، لكن بأسلوب أكثر حكمة وحكامة ونجاعة وفي ظرفية اقتصادية دولية ووطنية ملائمة وقادرة على حماية الشغل والاستثمار من الضربات الموجعة التي يتعرضان لها، فقديما قال أحد الحكماء ” أُفَضِّل أن أفتح نافذتي للهواء، لكن ليس في وقت العواصف”، إنها الحكمة التي نظن أنها تنقص مدبري سياساتنا العمومية، الذين يأبون إلا أن يفتحوا علينا النوافذ والأبواب في أزمنة الرياح الهوجاء والعواصف الشديدة.