الفردوس يكتب : الخطة الملكية للتعافي الاجتماعي والاقتصادي

الفردوس يكتب : الخطة الملكية للتعافي الاجتماعي والاقتصادي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

استأثرت المعضلات الاجتماعية التي اشتدت وطأتها بقوة في هذه الظرفية الوبائية، بمعظم المضامين التي تناولها الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الواحدة والعشرين لعيد العرش المجيد، إشارة من جلالته إلى أن ضمان العيش الكريم لكل مواطن من مواطني هذا البلد ومحاربة الهشاشة الاجتماعية هما محك نجاح الحكامة التدبيرية لكل مسؤول ولكل برنامج أو مشروع تنموي.
واستحضارا من جلالته للمجهودات الاستثنائية الناجحة التي بذلتها الدولة في التصدي للتداعيات السلبية لوباء “كورونا” على النسيج الاجتماعي الوطني، وفي دعم الأسر التي فقدت دخلها، وتغطية الخصاص والنقص، في وقت قياسي وظرفية اقتصادية وصحية صعبة، فإن جلالته لم يفوت الفرصة دون أن يوجه الاهتمام إلى ضرورة استكمال هذا الجهد بالنظر إلى النواقص والاختلالات التي عرى الوباء الداهم عنها، وكشف عن قصور وتأخر في معالجة معضلاتها، وعلى رأسها معضلتان نبه إليهما جلالته.

المعضلة الأولى أن شريحة واسعة من المواطنين لا تتمتع بتغطية صحية وحماية اجتماعية مناسبة، ولا تسمح لها هشاشتها بولوج منظومة الخدمات الطبية والعلاجية والتعويضات عن فقدان الشغل والاستفادة من التقاعد، وغيرها من الخدمات التي تستفيد منها شرائح وفئات من الشغيلة، وتزيد هذه الوضعية الهشة والإقصائية لفئات عريضة من المواطنين، تعميق الاختلال في التوازنات الاجتماعية، وتوسيع الحرمان والخصاص، حين تعرض البلاد لمثل ما تتعرض له في الظرفية الوبائية الراهنة من حجر صحي ووقف الحركة والرواج وتعطل الأنشطة الاقتصادية والعمل، فلا تجد هذه الفئة العريضة من المواطنين من أول يوم لتوقف دخلها، ما تسد به حاجاتها أو تعوض به خساراتها. وقد وجدت الإدارة في توجهها إلى دعم الأسر وذوي الاحتياجات، صعوبات كبيرة في الحصول على المعطيات المتعلقة بإحصاءات وحصر الأفراد والأسر المستحقة للدعم الاستعجالي، وفي الوصول إلى هذه الفئات والشرائح المهمشة والهشة الخارجة عن منظومة التغطية الاجتماعية وعن لوائح التقييد في الخدمات الاجتماعية النظامية، مما خلق ارتباكا في توزيع مخصصات الدعم، باتساع قاعدة المشتكين والمطالبين بالاستفادة من المساعدات. ونتيجة لهذه الوضعية التي تخدش الحكامة التدبيرية الاجتماعية لنموذجنا التنموي القائم على محاربة الهشاشة والتفاوتات الاجتماعية بين الفئات والجهات، فإن الخطاب الملكي السامي وجه أنظار الحكومة إلى تسريع وتيرة إدماج هذه الفئات والشرائح الهشة في منظومة الحماية والتغطية الاجتماعية، وذلك بإطلاق حزمة من الإصلاحات التي تهم تعميم التغطية الاجتماعية لجميع المواطنين، في آجال خمس سنوات المقبلة، وتشمل هذه الحزمة من الإصلاحات؛ التغطية الصحية الإجبارية، والتعويضات العائلية، والتعويض عن فقدان العمل والتقاعد، وكل الخدمات الاجتماعية التي تستفيد منها باقي الفئات المدمجة في صناديق الحماية والتأمين، وقد حث جلالته على تسريع تفعيل السجل الاجتماعي الموحد الذي تأخر إخراجه لعامين، وكان موضوع خطاب ملكي للعرش عام 2018، اعتبره جلالته حينها، “مشروعا اجتماعيا استراتيجيا وطموحا، يهم فئات واسعة من المغاربة، فهو أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي”. وها هو التأخر والتباطؤ في إرساء هذا المشروع وتفعيله، نتيجة حسابات سياسوية وانتخابوية ضيقة، يكشف عن إهدار لفرص وعن عدم تقدير للرؤية الاستباقية التي كانت وراء الدعوة إليه، والاستجابة بفعالية لحاجيات المواطنين.

ولئن كانت الحكومة قد تأخرت إلى غاية ظهور الوباء للانكباب على إخراج مشروع القانون المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي، وبإحداث الوكالة الوطنية للسجلات، والمحدث بمقتضاه السجل الاجتماعي الموحد وإحالته على البرلمان والمصادقة عليه، فإنها مدعوة اليوم إلى أخذ الدرس من هذا التأخر، ومن المستجدات الاجتماعية للحالة الوبائية، بالتفعيل المستعجل للسجل الاجتماعي، وتجويد منظومة التدخلات الاجتماعية الناجعة في حالات الهشاشة والإقصاء التي خلفها الوباء، ولا يزال، على شرائح واسعة من المواطنين والأسر.

المعضلة الثانية وتتمثل في حجم القطاع غير المهيكل الذي أبان توقفه أو تعطله عن العمل في فترة الأزمة الوبائية وإعلان حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي، عن خروجه بالكلية من برامج الإنعاش والدعم الاقتصادي الذي تلقته القطاعات الإنتاجية والخدماتية المهيكلة، وأبان هذا القطاع غير المهيكل عن القاعدة الكبيرة للعاملين فيه، وعن حجم الأنشطة المدرة للدخل والداعمة لعدد كبير من الأسر، وعدم إدماج هذا القطاع في المنظومة الإنتاجية المهيكلة وفي النسيج الاقتصادي الوطني المنظم، يجعله عرضة للتقلبات القاسية للسوق خارج أية ضمانات حمائية وداعمة لموارده البشرية والمالية ولمناصب الشغل التي يوفرها، وخارج منظومة التمويل والتأمين والإنقاذ. ومن ثمة اعتبر جلالته في خطاب العرش هذا القطاع غير المهيكل من ضمن الأولويات التي يتعين اتخاذ تدابير إدماجية بشأنه، بهدف التقليل من عشوائيته وتوسعه خارج مخططات الهيكلة والعقلنة والإصلاح والإدماج، والحد من تفاقم مشاكله، ومواكبة جميع المقاولات الصغيرة والصغرى والمتوسطة التي تنشط في القطاع تاركة وراءها مخلفات سلبية ومعيبة سواء بعدم التصريح بآلاف الشغيلة لديها، وحرمان خزينة الدولة وماليتها العمومية من مستحقات ضريبية، وعملها خارج القانون… وكلها معضلات ومشاكل طفت حدتها وعمق تأثيرها السلبي في الظرفية الوبائية، ونبهت إلى خطورة الاستمرار في تجاهل الآثار المدمرة للاقتصاد غير المهيكل في كل القطاعات الإنتاجية والخدماتية، حيث يشغل ما يقرب من مليونين ونصف من المواطنين، ويفوت على خزينة الدولة ما يناهز 34 مليار درهم سنويا من المداخيل الجبائية، حسب الإحصاءات الرسمية وحسب الأرقام التي أعلن عنها الاتحاد العام لمقاولات المغرب في دراسة أخيرة له حول تأثير الاقتصاد غير المهيكل على تنافسية المقاولات، وحول مقترحات تدابير إدماجه.

إن من شأن التراخي في معالجة المعضلتين اللتين نبه إليهما الخطاب الملكي، أن يفاقم أمام المدبر الحكومي أو الإداري لعمليات الإنعاش والدعم في الظرفية الوبائية، تخبطه في تحقيق النجاعة والحكامة الجيدة لإجراءاته وتدابيره، وإذا انضاف إلى هذا التراخي التدبيري، تراخي المواطن في اتخاذ الإجراءات الاحترازية والوقائية من عدوى الوباء، فإن العواقب الوخيمة على مكتسباتنا في مواجهة الوباء والتصدي لتداعياته، ستنتكس بنموذجنا التنموي لا قدر الله إلى انهيار وفشل ذريع، يتحمل المتراخون والمتباطؤون والمتثائبون، كامل مسؤولياتهم في أضراره وخسائره.

فلنواصل التعبئة الجماعية لمواجهة الظرفية الوبائية، وفي الآن نفسه العمل على إصلاح الاختلالات في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي شخص الخطاب الملكي السامي أمراضها المزمنة، واقترح مسارات عملية ومحددة لمواكبتها بالعلاج والإسعاف إلى حين تعافي النسيجين الاجتماعي والاقتصادي الوطنيين مما يتخبطان فيه من أزمات.

اترك تعليقاً

Share via