الفردوس يكتب : القطع مع ثقافة تبخيس التكوين المهني
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
من جملة ما استأثر بنصيب أوفر من التنبيه والتوجيه في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب، ضرورة استغلال الفرص والإمكانات التي تتيحها العديد من القطاعات الإنتاجية الواعدة بتوفير الشغل للشباب، وتثمين الكفاءات المؤهلة، وتنمية الثروات الوطنية، وخلق تنافسية اقتصادية للمقاولات المغربية، وتوطيد الاستقرار الاجتماعي، واستدامة التقدم. وهذه القطاعات ترتبط بالأنشطة المدرة للدخل والتي تلبي حاجيات الأسواق، وعلى رأسها القطاع الفلاحي الذي بإمكانه أن يشكل دعامة قوية للتنمية، إن تم تطويره وتأهيل موارده البشرية في العالم القروي، وضمان الخدمات الاجتماعية في الإدارة والتعليم والصحة لساكنته، ودعم استقرار هذه الساكنة، ومصاحبة المشاريع الاستثمارية في الصناعات الفلاحية والغذائية والمهن المرتبطة بها، ثم القطاع السياحي الذي تتوفر لبلادنا كل المقومات سواء في تنوعها الجغرافي والبشري، أو في تاريخها الحضاري والثقافي الذي تجسده مآثر معمارية من مدن أثرية ومساجد وزوايا وقصور ومنتزهات ومزارات ومغارات ومتاحف، وصناعات محلية متميزة، وتراث مادي غني من التحف الفنية والطبخ واللباس والموسيقى والاحتفالات والمهرجانات والمواسم، أو في استقرارها وأمنها وضيافتها، الأمر الذي يشكل جاذبية في المنطقة المغاربية وفي البحر المتوسط، وهو ما يمكن تعزيزه ودعمه لاستقطاب فئات وشرائح من السياح طلاب الاستجمام أو السفر لممارسة هواية رياضية أو حضور فعاليات ثقافية ومؤتمرات ومهرجانات ومعارض فنية ومهنية، وكل ما يشكل مصدر ترويج سياحي لبلادنا في مناسبات على مدار السنة.
إن هذين القطاعين الفلاحي والسياحي وما يرتبط بهما من أنشطة عديدة ومتنوعة يشكلان أهم فرص الاستثمار المتاحة لبلادنا بحكم موقعها الجغرافي وتاريخها العريق، ومن شأن النهوض بهما في النموذج التنموي الجديد وإعادة النظر في طريقة وآليات اشتغال السياسات العمومية عليهما، أن يعطي دفعة قوية لتقدم المغرب، وأن يمكن كل جهات البلاد من فرص التنمية البشرية والمجالية، وذلك لا يتأتى إلا بربط هذين القطاعين بتأهيل مواردهما البشرية الشابة عن طريق إصلاح عميق في منظومة التربية والتكوين، بجعل تأهيل التكوين المهني عملية محورية في هذا الإصلاح، بهدف ملاءمة هذه المنظومة مع سوق الشغل، التي تعاني من خصاص في اليد الحرفية والمهنية، ومن الفكر الإبداعي والابتكاري الذي يغذيها بالأفكار والمواهب والكفاءات المنتجة.
إن معضلة إدماج الشباب في سوق الشغل لن تحل بخلق مناصب عشوائية للتشغيل، بل باستثمار الفرص المتاحة؛ أي المناصب الشاغرة الموجودة في القطاعات المشمولة ببرامج الإصلاح والتنمية، والتي لم تنهض لغاية اليوم بمهمتها في تسريع وتيرة النمو والتشغيل وتحسين ظروف عيش المواطنين.
ولأن ثقافة التعليم والتكوين والتدريب يجب أن تتوجه إيجابيا نحو تمكين الشباب من تكوين متين في المعارف والمهارات التي تتصل بحاجيات الأسواق وبالأعمال والأنشطة المدرة للدخل، فإنه لا مناص من الاستثمار القوي في قطاع التكوين المهني، الذي لم يعد في المرحلة الجديدة التي تنعطف فيها التنمية على الصعيد الدولي نحو المهن والأعمال المنتجة والمثمرة، ونحو الابتكار وخلق الثروات، مجرد هامش لاستقطاب فئات من الشباب الذي لم يتمكن من مسايرة مسارات التعليم العام، بل تعبئة للكفاءات المتميزة لهذا الشباب وتأهيلها للاندماج في الفرص الجديدة التي تتيحها الأسواق المحلية والدولية، ويتوفر للمغرب منها، كما ذكرنا، ما يمكن أن تشكل به سياساته التنموية ثورة اقتصادية واجتماعية رائدة.
لقد تطرق الخطاب الملكي إلى عدد من المهن والحرف الواعدة المرتبطة بالقطاعين الفلاحي والسياحي وغيرهما، من مثل الصناعات التقليدية والصناعات الغذائية والخدمات وصناعة السيارات والطائرات والتكنولوجيات الحديثة، وغيرها من الخدمات والصناعات الجديدة التي لا يمكن تلبية الحاجات إليها إلا بأيدي شباب متعلم ومتدرب يستفيد مما تتيحه منظومة التربية والتكوين من برامج التعليم والتكوين والتدريب الموجهة نحو المستقبل.
يتعين أن نأخذ بعين الاعتبار نتائج مجموعة من الدراسات والأبحاث ذات الصلة ببطالة خريجي مؤسسات التربية والتعليم والتكوين، وبتحليل سوق الشغل ورصد نظام الولوج إليه عبر حاجياته من الأطر التقنية والمدربة، وبالمهن الجديدة والواعدة في عالم الشغل والأعمال والمقاولات. كما ينبغي أن نستثمر توصيات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، في تقريره حول إصلاح التكوين المهني، الصادر في يناير 2019، ومنها ضرورة تثمين التكوين المهني من خلال اقتراح سلسلة من التدابير تروم إعطاء صورة إيجابية عنه، وتأكيد دوره المحوري في تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص والاندماج الاجتماعي.
إن استمرار التصور السلبي في منظومتنا التربوية والتعليمية والأسرية والثقافية، للتكوين المهني، يفقد الحماس والجاذبية والتعبئة والاستقطاب للعمل، ويغالط الشباب والطلبة، ويحرمهم من الاندماج في الحياة الاجتماعية وفي محيطهم المهني والإنتاجي. ويتعين تغيير هذه الثقافة السلبية، عن طريق التواصل والإعلام وعن طريق توسيع الإدماج التام لهذا التكوين في التعليم العام، وإحداث مسالك مهنية وممرات وجسور بين الأسلاك لولوج الجامعات، واعتماد هندسة بيداغوجية جديدة في برامجه ومسالكه، وتنويع عروضه، وعن طريق تقديم أمثلة ناجحة في الاندماج الاقتصادي والاجتماعي لخريجي هذا التكوين، والقطع مع حالات الإخفاق والفشل في الحصول على فرص العمل، وكل أسباب عطالة وبطالة هؤلاء الخريجين، التي بلغت حسب الإحصاءات الأخيرة للمندوبية السامية للتخطيط أزيد من 24 بالمائة في حين أنها تبلغ 16 بالمائة لدى خريجي التعليم العام، وهي البطالة المرشحة للارتفاع بفعل عدم ملاءمة التكوين مع الحاجيات، وعدم تجديد النموذج التنموي المستوعب للخصوصيات الجهوية المتنوعة للبلاد، وللتحولات المتسارعة على صعيد الأسواق العالمية في مجال الخدمات والمهن والحرف والصناعات التكنولوجية والرقمية الجديدة والرائدة.
ليس الرهان على إصلاح التكوين المهني في الرؤية الملكية، رهانا قطاعيا وجزئيا، بل رهانا شموليا لإحداث تحول جذري في منظومة التربية والتكوين في التقائيتها وانسجامها مع المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الوطنية، لذلك سهر جلالة الملك خلال عام، ومنذ أن كلف رئيس الحكومة في أكتوبر الماضي، بإعداد مخطط لتأهيل التكوين المهني، ثم ترؤسه لجلسات العمل والتدقيق مع فريق العمل، وتقديم توجيهاته لمراجعة هذا المخطط، فعرْض الخطة الجديدة على أنظاره في أبريل الفارط، (سهر) على إحاطة هذا الورش الإصلاحي الكبير بكل ضمانات نجاح إرسائه على أسس سليمة، وبفلسفة شاملة ستمكن اللجنة المكلفة بالنموذج التنموي الجديد، المرتقب تعيين أعضائها، من اعتمادها في إقامة رافعات إعادة بناء الصيغة الجديدة للنموذج التنموي الوطني، واستباق التحولات في مجالات التنمية والتشغيل والمهن الجديدة المدرة للدخل والخالقة للثروات والمفرزة للكفاءات.
وعلى هذا الأساس، فإن الفاعل الحكومي مطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بضمان تنسيق وانسجام والتقائية برامجه القطاعية مع هذا المستجد في مجال تثمين الموارد المادية والبشرية الوطنية، وإحداث تحول جذري في قطاع التكوين المهني يسمح له بتوفير حاجيات البلاد والأسواق من الأطر المدربة، وباحتضان المهارات والكفاءات وتوجيهها نحو المهن والحرف الجديدة التي لا تتوقف عند الحرف اليدوية التقليدية، بل تتجاوزها إلى تخصصات تكنولوجية وصناعية ورقمية متجددة ومطلوبة بقوة في عالم الخبرة والاستشارة والاتصال والأعمال والأموال. كما أن هذا الفاعل الحكومي مطالب ببلورة خطة العمل المقترحة لإصلاح التكوين المهني، في برامج وأوراش واقعية وقابلة للتنفيذ ومدققة الآجال، وقادرة على التأهيل الشامل لقطاع التكوين المهني للاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، ولانتظارات المجتمع وشبابه، وعلى خلق جاذبية علمية وعملية لهذا القطاع، تمحو ما ترسخ عنه في الأذهان من صور سلبية وتنقيصية.