الفردوس يكتب : تربية الوحش
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
يبدو أن من أهم معيقات التنمية في بلادنا هو سيرها بسرعتين مختلفتين في المضمون وفي الاتجاه، إحداهما تتجه إلى المستقبل وتتقدم خطوات إلى الأمام في إرساء دولة المواطنة الحق والحريات والحقوق المضمونة والمسؤوليات التي تترتب عنها محاسبات ومساءلات عن تضييع الأمانات والواجبات، وإحياء قيم التضامن والتعاون على الخير، والتعبئة على تطوير نموذج مجتمعي بعيد عن مظاهر الكراهية والفوضى والعنف والإقصاء والتهميش، ويتمتع بحصانة أخلاقية في سلوكاته المدنية والحضارية، وثاني سرعة تجر المجتمع والدولة إلى الوراء، وتسحبهما إلى الدرك الأسفل من التردي والانحطاط، وفساد السلوك والتصرف والرأي، وإساءة إلى كل جهود البناء والنماء والازدهار.
هناك أكثر من واقعة عمت بها البلوى، وسارت بها الأخبار في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية عن مشاهد منقولة وموثقة ومعاشة يوميا في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا تبشر بأي تقدم محرز على مستوى تغيير الذهنيات والعقليات، والتي تنعكس سلبا على سلوكات المواطنين، خصوصا منهم الفئات الشابة والناشئة من الأجيال الصاعدة، هذا إن لم نقل أن هذه السلوكات صورة مصغرة عن فشل منظومتنا التربوية الأسرية والتعليمية والتثقيفية والإعلامية والسياسية في تحقيق المواءمة بين الخطاب الإصلاحي والممارسات المدنية والمواطنة الصالحة، وإحداث نقلة نوعية في وعي المواطنين باستحقاقات ورهانات بلادهم على التطوير والتحديث والتنمية.
ويكفي أنه في فترة تدبيرنا الجماعي لتداعيات الوضعية الوبائية، تخرج بين الفينة والأخرى مظاهر من التردي الأخلاقي والانتكاس السلوكي، تكاد تعصف بكل المكتسبات الإيجابية التي نعتقد أننا حققناها على درب التغيير والحكامة والتربية على المواطنة والسلوك المدني، ونقدم عنها للعالم صورا متناقضة ومشوشة ومحيرة، ماهي في الحقيقة إلا صورة عن السرعتين الزمنيتين اللتين نسير بهما من غير أن نقطع طريقا أو نجتاز عقبة، لأن إحدى السرعتين تشدنا دائما إلى الخلف، وتجعل السرعة الأخرى بدون مضمون ولا حركة انتقالية فعلية تجعلنا نغادر منطقة الجمود والتخلف والجهل. وكان آخر مشاهد هذه السرعة الارتكاسية والخطوة إلى الوراء، ما شهدته عدد من مدن البلاد في ليلة عاشوراء من سلوكات سلبية وتخريبية، ومن مظاهر العنف المادي الذي أفسد أجواء الهدوء، وأقلق راحة المواطنين، وكشف عن مبلغ مخزون العنف والكراهية والفوضى الذي يتحين الفرص ليحرق الأرض من تحت أقدامنا. لقد قاد شباب يافع حركة ردة أخلاقية وسلوكية، بتشجيع من التربية الأسرية المستقيلة من مهامها في التنشئة الصالحة، وتحت أعين المنظمات والجمعيات والهيئات المدنية التأطيرية، وبحضور خطابات المناهج التعليمية والتوجيهات الإعلامية والثقافية والرياضية والسياسية التي يعول عليها البلد في الرقي بالعقليات والسلوكيات والمعاملات في اتجاه التوافق مع القيم المدنية الكونية، وذلك بإحداث فوضى شاملة مورست فيها كل أنواع التوحش، من تخريب وشغب، وإشعال نيران، وقذف بالحجارة، وتكسير للسيارات وتهشيم للواجهات، وإلقاء بالشهب الاصطناعية والمفرقعات والألعاب النارية في وجوه المارة وفي الشارع العام وداخل المنازل ووسائل النقل، وتهديد حياة رجال الأمن والقوات العمومية التي تصدت للأعمال التخريبية في ظرفية حرجة ودقيقة للغاية، تتطلب مزيدا من اليقظة والتعبئة لحماية الوطن والمواطنين من تداعيات الحالة الوبائية التي تُسقط يوميا مئات من المصابين بالعدوى، بين مريض وصريع، ناهيك عن الخسارات المتلاحقة في العمل والإنتاج والثروة الاقتصادية والبنيات الصحية. فإذا انضافت إلى هذه الوضعية الوبائية خسارة الأخلاق وضياع التربية، وفساد السلوك والتصرف، وفوضى المعاملة، وسوء الأدب، وخرق القوانين والإجراءات الصحية والأمنية الاحترازية، فإن زمن كورونا في بلادنا سيواصل بتربيتنا هذه، وبالسلوكات غير المواطنة وغير المدنية لأجيالنا الصاعدة، حصد مزيد من الأرواح، وضمان الإقامة الدائمة في جسدنا الاجتماعي الذي لم ننجح تربويا وثقافيا في تمنيعه وتحصينه، رغم كل خطاباتنا التحسيسية ومبادراتنا العملية الظرفية والعابرة التي تكشف عن عدم انغراسها وتجذرها في الذهنيات والعقليات الجماعية المتوقفة عن التفاعل الإيجابي مع القيم المدنية والحضارية والحداثية للعصر.
لقد فتحت الاحتفالات التخريبية والدموية لليلة عاشوراء، أعيننا على حقيقة طالما نبهنا إليها، وهي أنه بدون بناء المواطن الصالح، وتفعيل التربية على المواطنة وعلى السلوك المدني للأجيال الصاعدة، وتأطيرها على القيم الإنسانية النبيلة، وإحداث تغيير عميق في الذهنيات والسلوكيات المجتمعية، لا يمكننا أن نتقدم خطوة إلى الأمام، بل لا يمكننا أن نوقف السيل الجارف للتراجع والتردي والانحدار الشديد والسريع.
إنه بدون قيام منظمات المجتمع المدني وجمعيات الأحياء والمدن والهيئات السياسية والنقابية ووسائل الإعلام والمناهج التعليمية والتكوينية، والأندية الرياضية والمنتديات الثقافية والفنية، وبنيات الوعظ والإرشاد الديني، وما أكثرها، بتحمل رسالتها الإنسانية والوطنية في التأطير والمواكبة والتعبئة، وبتفعيل أدوارها كاملة في إسناد المشروع المجتمعي الحداثي، ودعم النموذج التنموي الوطني الجديد، سنقف كما وقفنا اليوم وجها لوجه أمام الوحش الذي ربيناه على أعيننا، وأطعمناه شرا، وأمام زرع فاسد غرسناه جميعا بفوضى، وسقيناه بلامبالاة وتجاهل، وتعهدناه باللعن والسب والتأفف، حتى تطاول وانحرف وأتى أكله المر وثمرته المتعفنة.
فبدَل أن نسب الظلام، ونستمطر اللعنات على هذا الجيل من الشباب والناشئة التي توحشت سلوكاته وخرجت عن حدود التهذيب والسيطرة، علينا أن ننظر في ما فعلناه لوقايته مما حذرناه وخشيناه من مصير مؤلم، وما ساهمنا به في تعطيل القدرات العقلية والأخلاقية لمواطنينا، وما ربيناه في النفوس من أحقاد وفوضى ولا مسؤولية، وعلينا اليوم، أُسَرا وهيئات مدنية وسياسية وأندية رياضية وثقافية وفنية، وإعلاما وأعلاما وقيادات وزعامات فكرية وثقافية ودينية، أن نتحمل مسؤولياتنا كاملة في استرجاع ما انفلت منا وانجرف من أدوار في التأطير والتنشئة على القيم الفضلى والمثلى، وأن لا نترك هذا الجيل الضائع فريسة للتوحش والهمجية والانحراف وإهمال التربية، وأن نعود باللوم على برامجنا وخطاباتنا التيئيسية والتبخيسية ومشاريعنا العائمة، فنوقد فيها شموع الأمل والعمل والهداية، حتى ننير الطريق إلى غد أفضل للإنسان المغربي، الذي هو هذا الجيل الوارث لنا ولِتَرِكَتنا الحضارية ورسالتنا الإنسانية، ولقيمنا في الحياة والعيش الكريم والتعايش البناء ورعاية الحريات والحرمات والحقوق.