الفردوس يكتب : حينما تصير الحكومة فوق القانون

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
وضعت الحكومة نفسها في موقف حرج للغاية، ستكون له تداعياته وتبعاته وانعكاساته السيئة على الثقة بين المواطنين وإدارة بلادهم، وعلى مصداقية الخطاب الحقوقي والديمقراطي لمدبري الشأن العام الوطني، وذاك أنه في سياق توطيد دعائم دولة المؤسسات والحق والقانون، وفي سياق إعادة الاعتبار للقضاء وللعدالة وتكريس هيبتهما، قامت الحكومة بإشهار المادة التاسعة من مشروع قانون المالية 2020 في وجه الدائنين وذوي الحقوق الحاصلين على أحكام قضائية تنفيذية نهائية لصالحهم ضد إدارات الدولة ومؤسساتها العمومية وجماعاتها الترابية، حيث قضت هذه المادة بمنع الحجز على الممتلكات العمومية بحجة ضمان استمرارية المرفق العام في تقديم خدماته للمواطنين، أي بتعطيل الأحكام القضائية النافذة والإلزامية والتدخل الانفرادي لتغيير القانون الذي يسمو فوق الجميع وذلك بتقييده بتشريعات استثنائية خارجه، مُفَصَّلة على مقاس الإدارة بهدف حمايتها من المساءلة والمحاسبة، وتمهيد الطريق أمامها للامتناع عن رد الحقوق إلى أصحابها، والإفلات من العقاب.
لا شك أن قيام الحكومة بهذه الخطوة أو القفزة غير المحسوبة العواقب، لا يمكن وصفه إلا على أنه تطاول على القضاء والعدالة وتَحَدٍّ للقانون، لما في هذا الصنيع من عرقلة لتنفيذ الأحكام القضائية وإعطاء وضع اعتباري للإدارة يسمح لها بحق التصرف في تنفيذ هذه الأحكام إذا تعلقت بذمتها المالية، وأظهرت عجزا ومَطْلاً في أداء الحقوق لذويها. والحال أن لجوء الدائنين المتضررين إلى القضاء لإنصافهم واسترداد حقوقهم، وكذا صدور أحكام نهائية لصالحهم، قد استنفد كل مساطر هو احترم شروط التقاضي، وتحمل عبء الانتظار وكلفته، وتعَقُّد الإجراءات المسطرية وتشابكاتها، ولا يمكن لذوي الحقوق المتضررين أن يرغموا بسلطة فوق القانون على قبول عدم تسوية ديونهم واسترجاعها إذا تعلق الأمر بالإدارة ومرافق الدولة التي تضعها المادة التاسعة من مشروع قانون المالية حَكَما متصرفا ومتحكما في تنفيذ الأحكام القضائية، ومتمتعا بامتيازات عدم الامتثال لها، لا خصْما أمام القضاء، مساويا في الحقوق والواجبات والمسؤوليات.
وإذا كان القانون ـ بل الدستور ـ يؤكد على مبدأ المساواة بين الأشخاص الذاتيين والاعتباريين وكذا السلطات العمومية في الامتثال للقانون، كما يعاقب بشدة كل من تسبب في عرقلة أو تأخير متعمد لتنفيذ حكم قضائي، فما بال الحكومة لم تكْتَف بعرقلة التنفيذ وتأخيره وتأجيله فحسب، وإنما منحت نفسها درجة تفضيلية تسمح لها دون سائر المدينين بعدم تنفيذ الحكم.
نحن أمام صورة من صور التراجع عن دولة الحق والقانون، وصورة من صور تحقير القضاء وتضييع الحقوق، فلا غرابة أن ينتفض القضاة والمحامون ضد هذا التدخل السافر لأحد الخصمين الواقفين أمام العدالة لإحاطة نفسه بامتيازات واستثناءات وحصانات، ولا غرابة أن يتخوف المستثمرون وينفر الأجانب خاصة، من أي معاملة مالية مع إدارة حكومية أو مؤسسة عمومية في بلد لا يحمي استثماراتهم وأموالهم من مخاطر تملص هذه الإدارة أو المؤسسة من أداء الحقوق لأصحابها، بل إفراغ الأحكام القضائية من طابعها الإلزامي ومن مضمونها الإنصافي للمتضررين، بالامتناع عن تنفيذها والالتفاف عليها بمثل هذه المادة التشريعية الحمائية الشاردة في قانون المالية.
كان المنتظر من حكومة يتم في عهدها استكمال حلقات المفهوم الجديد للسلطة والإدارة، وإرساء النموذج التنموي الجديد، أن تحتاط من الوقوع في كل ما من شأنه أن يزعزع الثقة بين الإدارة والمواطن، وأن يشوش على مصداقية المؤسسات، وأن تكون نموذجا يحتذى في احترام القانون وصيانة الحقوق والدفاع عنها، استحضارا للتحديات والرهانات التي تنخرط فيها البلاد لتحسين مؤشرات الحياة والمواطنة والعدالة والحكامة الجيدة، وتنفيذا للتعليمات الملكية الصريحة والحاسمة بشأن علاقة المواطن بالإدارة، التي يجب أن يحكمها القانون والنجاعة والاستجابة للحاجيات وأداء الخدمات وتبسيط المساطر وصيانة الحقوق، فقد جاء في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية أكتوبر 2016، توجيه بالغ الأهمية ينص على أنه “من غير المفهوم أن تسلب الإدارة المواطن حقوقه، وهي التي يجب أن تصونها وتدافع عنها. وكيف لمسؤول أن يعرقل حصوله عليها وقد صدر بشأنها حكم قضائي نهائي؟ كما أنه من غير المعقول، أن لا تقوم الإدارة حتى بتسديد ما بذمتها من ديون للمقاولات الصغرى والمتوسطة، بدل دعمها وتشجيعها، اعتبارا لدورها الهام في التنمية والتشغيل”.
وبدل تفعيل القانون واستحضار هذه التوجيهات الملكية التي تستشرف أفقا آخر متقدما ومتغيرا في تحسين علاقة الإدارة بالمواطن وتعزيز الثقة في التزامات الإدارة وتحملها مسؤولياتها كاملة عن أي تقصير أو إضرار بمصالح المواطنين، ترجع بنا الحكومة من جديد إلى العرقلة والتماطل وتعقيد المساطر وتقييد الأحكام القضائية بما تستحدثه من تشريعات امتيازية وحمائية تزيد من منسوب التوتر والاستياء الاقتصادي والاجتماعي من أداء الإدارة والمؤسسات العمومية المدينة المتملصة والمتهربة من رد الحقوق إلى أصحابها وتنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضدها.
إننا قد نتفهم إكراهات الحكومة وحرصها على استمرارية المرفق العام المعرض للحجز، لكن على الحكومة أن تظهر قدراتها السياسية واجتهاداتها التشريعية وكفاءاتها التدبيرية المعتبرة في حل معادلة واجب تنفيذ الأحكام القضائية وفي الآن نفسه ضمان استمرارية المرفق العمومي، أما أن يكون حل هذه المعادلة لصالح الدولة المدينة ضد الدائنين المتضررين من إخلالها بالتزاماتها، فهذا عين الظلم والإجحاف والشطط في استعمال السلطة، ذلك الشطط الذي لم يصب المواطن فحسب، بل أصاب بشرره المؤسسة القضائية والعدالة الوطنية التي بخستها المادة التاسعة المقحمة في مشروع قانون المالية الجديد، وأصاب في الآن نفسه بضرر بالغ علاقة المواطنين والمستثمرين بالإدارة التي تسن لنفسها قوانين استثنائية على مقاسها وتتحلل من الأحكام القضائية الصادرة ضدها لما يترتب عنها من تبعات مالية ومادية.