الفردوس يكتب : شرعية التفكير في إصلاحات دستورية وانتخابية
بقلم السيد عبدالله الفردوس
يطفو على سطح المشهد السياسي الوطني سؤال جوهري مؤرق، يتعلق بالحاجة إلى تعديل المنظومة الانتخابية، تحاول الطبقة السياسية تفاديه، لما يثيره من شجون وهواجس وتخوفات غالبا ما ترتبط بالرغبة في الحفاظ إلى أبعد حدود على النموذج الانتخابي القائم، رغم ظهور عيوبه السياسية وأعطابه التقنية، أقلها عجزه عن إفراز تشكيلة أغلبية حكومية متماسكة وتحالفات منسجمة قادرة على الوفاء ببرنامجها والنهوض بالتزاماتها الإصلاحية. وليس أدل على ذلك مما عشناه ولا نزال نعيشه من عسر في الحياة السياسية، وصعوبات متناسلة في المصادقة على قوانين وتمريرها، بدأت منذ تشكيل الحكومة الأولى بعد التعديل الدستوري لسنة 2011، ثم إجراء الانتخابات التشريعية لسنة 2016، وتعذر تشكيل الحكومة الثانية، بسبب ما سمي بـ”البلوكاج” أو التعثر الحكومي، الذي وصلت فيه مشاورات تشكيل الحكومة إلى باب مسدود كادت تدخل آنذاك شهرها السادس بدون نتيجة وبفراغ حكومي مهول، لولا التدخل الملكي الذي تم بموجبه إعفاء رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بن كيران، وتعيين رئيس حكومة جديد من الحزب نفسه الذي تصدر نتائج الانتخابات. ورغم أن رئيس الحكومة الجديد قد تجاوز أخطاء سلفه، وعجل بتشكيل الحكومة في أقل من شهر، إلا أن تعثرات أخرى كانت تنتظر هذه التشكيلة الحكومية التي تفتقد إلى ملامح سياسية مشتركة بين أطيافها الحزبية، كان أبرزها غياب رؤية ناظمة ومنسجمة لعملها، لاختلاف مرجعياتها، الشيء الذي تسبب في إهدار الزمن السياسي في خلافات حول مشاريع القوانين الحيوية التي ظلت حبيسة الأخذ والرد إلى غاية اليوم، والتنصل من الالتزامات المقطوعة، وتصاعد الاتهامات بشأنها وتبديد الجهود حولها، من مثل القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين، وقانون تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وغيرها من القوانين التي انتقل العمل الحكومي عليها من التحصيل والتفصيل إلى التأجيل ثم التعطيل، زد على ذلك الفشل الذريع في تدبير وتنزيل مشاريع من مثل التعاقد والمقاصة وغيرها، كان الفاعلون الحكوميون أنفسهم منقسمون حولها، ومتخبطون في الحسم الإيجابي فيها والإقناع بوعودها، مما ألقى، ولا يزال، ظلالا قاتمة على الساحة السياسية، وألقى أسئلة حارقة حول أسباب ارتباك عمل الأغلبية الحكومية في تدبير السياسات العمومية ذات الطابع الاستراتيجي الوطني البالغة الأهمية في الظرفية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة .
وإذ تَعُود الأذهان مرة أخرى إلى تحليل الأسباب العميقة لعسر الحياة السياسية، وترنُّح الأغلبيات الحكومية المشكلة منذ إقرار الإصلاحات الدستورية لسنة 2011، فإن أصابع الاتهام تذهب إلى أبعد من الصراعات الحزبية التي تنزل بثقلها على المشهد السياسي الحكومي، لتشير إلى المنظومة الانتخابية القائمة التي أفرزت هذه الخريطة الحزبية الانتخابية الهجينة، التي يتعذر معها تسريع وتيرة أي عمل حكومي مستقبلي، رغم كل التطمينات الظاهرة والقائلة بأن الحكومة تعمل وتشتغل بروح الفريق المنسجم والمتراص.
ومع أن أحزابا من الأغلبية الحكومية تمتعض من مجرد ذكر هذا السبب الانتخابي، بل والدستوري العميق المرتبط بالفصل 47 من الدستور، وتشكك في كل النوايا الحسنة التي تروم خلق دينامية جديدة في الحياة السياسية، بما يجعلها سلسة في ولوج مدخلاتها الدستورية، ومرنة في تدبير مخرجات نتائجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الحياة العامة، تلك الدينامية التي تتعذر مع بقاء وضع هذا الفصل الدستوري وكل مستتبعاته في القوانين الانتخابية على ما هي عليه بدون تعديل أو تغيير أو إصلاح تقتضيه خلاصات تشخيص الأزمات الناتجة عن الواقع الذي أفرزته هذه المنظومة الانتخابية في بعديها الدستوري والقانوني.
والمعلوم أن مجرد التفكير في تعديل فصل من الدستور أو قانون تبين أنه جزء من المشكل، أو حتى أنه جوهر المشكل وكله، ليس عيبا وليس أمرا مشبوها حتى ينعت من يفكر فيه بالخلفيات المشكوك في أمرها، أو بانعدام المصداقية، أو باستهداف تجربة ديمقراطية. والحال أن التفكير في تعديلات الدساتير والقوانين وتجويدها لم يكن عند هؤلاء المشككين في يوم من الأيام عملا مشبوها، إذ طالما رفعوا هذا المطلب، وطالما وضحوا العيوب وفصلوا المشاكل وبسطوها، وطالما دعوا إلى ضرورة أن تفرز النظم الانتخابية أغلبية منسجمة وخريطة حزبية وسياسية غير مبلقنة، ومعارضة واضحة وقادرة على المدافعة والتميز بمرجعياتها وخطابها وبرامجها، والواقع أن لاشيء من ذلك حدث، بسبب من تقييدات الفصل 47 من الدستور، وتعقيدات واقع تنزيله، ومنظومة انتخابية تطوقنا بإلزامات وإكراهات في نمط الاقتراع وفي بناء التحالفات وغيرها، بما يجعل نتائجها الديمقراطية على غير المأمول في الاستجابة لانتظارات الهيئة الناخبة، ومقاصد الدستور في تسهيل الحياة السياسية.
ليس القصد تكريس تراجعات عن الديمقراطية وعن مقتضيات الدستور، بل القضاء على الهشاشة السياسية والانتخابية، وعدم التحرج من أي إصلاح يروم تجويد وتحسين أداء المؤسسات المنتخبة، بما ينسجم مع روح الدستور ومقاصده.
وإذا كان من سؤال فعلي وصادق صادر عن روح نقدية للتعثرات المشخصة في إرساء الديمقراطية الانتخابية، ومراجعة عدد من إفرازاتها غير الصحية، ومعالجتها جذريا، فلن يكون إلا التساؤل عن سبب التمسك الشديد بفصل من الدستور أو بنظام انتخابي ثبت للعيان وبالتجربة أنه، على الأقل، جزء من المشكل. فيما نرى العديد من الدول الديمقراطية طالما غيرت وعدلت باستمرار منظومتها الانتخابية ونمط اقتراعها، وما مثال الجمهوريات التي تعاقبت على فرنسا ببعيد عنا، حيث كان التعديل الانتخابي والإصلاح السياسي مطلبا يجري مباشرة بعد نتائج انتخابية عسيرة التنزيل على أرض الواقع. فهل سنكرر أخطاء الهشاشة و”البلوكاج” و”البريكولاج” وكل أشكال التعثر والنفور والعزوف، والتجهم في الحياة السياسية في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة والقريبة، والمشكل قائم ينتظر الحل والعلاج؟ إن تكرار الخطأ نفسه والإصرار عليه، من غير تعلم أي درس منه، لا يمكنه أن ينتج إلا المشاكل نفسها، ولا يمكن لمن كان جزءا من المشكل الانتخابي أن يكون مستقبلا جزءا من الحل.
إن تجديدنا الدعوة إلى فتح ورش التفكير في الآليات الديمقراطية الكفيلة بإجراء تعديلات على فصل من الدستور، أو على بنود من مدونة الانتخابات، بهدف القطع مع بلقنة الساحة السياسية والحزبية، ومع إكراهات تشكيل الأغلبيات الحكومية، ومع المفاجآت السلبية غير المتوقعة والإحباطات والكوابح في تدبير السياسات العمومية، وبهدف تيسير الحياة السياسية وترقيتها، ليس إلا انخراطا في عمق السؤال الديمقراطي الوطني بارتباطه بواقع الممارسة السياسية التي تتحكم في تفاصيل تنزيل القوانين والتشريعات وتمثلاتها الاجتماعية والسياسية في بلادنا، والإنصات العميق للأزمات والاحتقانات والمتغيرات التي تعطل مسيرة نموذجنا الديمقراطي والتنموي الوطني، والحد من الظواهر المسيئة للعمل السياسي، ولا علاقة لهذه الدعوة بأي رغبة في التنقيص أو التبخيس من الشرعية التمثيلية الانتخابية أو التحكم في الاختيارات الحرة المحفوظة للناخبين.