الفردوس يكتب : في مطلب الإفلات من العدالة

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
كان اختيارنا منذ اندلاع قضية الصحافي توفيق بوعشرين وإحالة ملفها على القضاء، أن نمتنع عن التدخل في مسارات النازلة حتى لا نُتَّهَمَ بمحاولة التأثير على العدالة. واليوم، وقد صدر الحكم في الملف ابتدائيا واستئنافيا، فإن من حقنا أن نناقش هذه النازلة وما اكتنفها من مزايدات.
فلا أحد من المنصفين والمتنزهين عن الأغراض والولاءات والأحقاد والشماتات، كان يتمنى للصحفي توفيق بوعشرين الوضع المؤسف والمحرج الذي زج فيه نفسه، بعد توجيه اتهامات خطيرة إليه، بناء على شكايات عدد من النساء في قضايا وجرائم أخلاقية يعاقب عليها القانون، وبناء على ما تحصل لدى الجهات الأمنية الضابطة من أدلة وبراهين تدين المتهم، أحيلت على العدالة للنظر فيها، وجرت محاكمة توفرت فيها لدفاع طرفي هذا الملف الجنائي شروط العدالة والنزاهة، وتابع الرأي العام الوطني والدولي أطوارها وتفاصيلها بكل شفافية، بما في ذلك ما يصرح به المتهم ويدلي به وهيئة دفاعه من أدلة براءته ومن ردوده وطعونه، إلى أن تم الحكم فيها بإدانة المتابع ابتدائيا واستئنافيا بما ثبت لدى القضاء من تهم في حقه.
وبغض النظر عن ما اكتنف هذا الملف من ضجيج طاغ واستنفار كبير، أثناء المحاكمة بهدف التأثير على القضاء، والحيلولة دون متابعة الرجل ودون تحقيق العدالة، خلافا للصمت عن غيره من ملفات جنحية وجنائية شبيهة، تتداولها محاكم البلاد، وتَصدُر فيها أحكامٌ بالبراءة أو الإدانة في حق مواطنين، فإن عددا من المتعاطفين مطلقا مع بوعشرين، وعددا من أعضاء هيئة دفاعه وأفرادا من أسرته، أبوا إلا مواصلة التحامل على القضاء المغربي، من خلال الترويج لأطروحة وجود مؤامرة سياسية على بوعشرين بسبب مواقفه الصحفية والسياسية وكتاباته النقدية اللاذعة، وأن المحاكمة هي محاكمة لحرية التعبير والرأي، والحال أن هذا الأمر سيكون واردا لولا وجود شكايات لنساء غير مجهولات وتربطهن علاقة العمل والزمالة مع المتهم، يبسطن فيها ما تعرضن له من ظلم واغتصاب واعتداء، ويطالبن بإنصافهن من المشتكى به.
هذا هو جوهر القضية والملف، وهذا هو ما تصدى له الاختصاص القضائي بالنظر والمتابعة في جرائم من هذا النوع، وليس مطلوبا من العدالة التي تم اللجوء إليها لإحقاق الحق، ورفع مظلمة، أن تنظر في حيثيات ما إذا كان المتهم يلاقي تعاطفا حقوقيا وإعلاميا من هذه الجهة السياسية أو تلك، بسبب مواقفه السياسية أو الفكرية أو الإعلامية، أو يتعرض لمضايقات وانتقادات من هذه الجهة السياسية والجمعوية أو تلك. فهذا موضوع آخر لا علاقة له بالمظلمة المرفوعة إلى القضاء.
إن الذين خرجوا بتصريحات لإدانة القضاء بعدم الاستقلالية، وباستهداف الصحافة والقلم الحر، وبالتواطؤ لتمرير مؤامرة ضد الحريات والحقوق، وتوريط المغرب في نزاع مع المنتظمات الدولية الراعية لحريات الصحافة وحقوق الإنسان، هم من يستهدفون هذه الاستقلالية بما يقومون به بدون كلل أو وخز ضمير أو أخلاق حقوقية، لمطالبة العدالة المغربية بالتمييز بين المواطنين على أساس أوضاعهم الاعتبارية المهنية أو مكاناتهم الاجتماعية والسياسية، وتكريس المظالم، وعدم إحقاق الحق، وكف يد العدالة عن أن تطول كل متحصن بامتياز أو حصانة من المساءلة والمحاسبة.
الذين يَسْتَعْدُون اليوم المجتمع الدولي ضد بلادهم، ويستقوون به، بتلبيس الملفات الجنائية بملفات حقوقية، وبخلط أوراق الجرائم وانتهاك الأعراض التي تعاقب عليها القوانين الدولية، بورقة حرية التعبير والصحافة والرأي، هم من يسيؤون إلى المسار الحقوقي الوطني وإلى حريات التعبير والرأي والصحافة بالزج بهذا المسار في نفق خطير يعيد مساءلة مصداقية النضال الحقوقي الخالص والنزيه المتوجه بخطابه إلى جميع المواطنين باعتبارهم معنيين بها، وبدون استثناء أو إقصاء من شمولها لهم. فماذا يعني أن يكون بوعشرين مركز هذه الحقوق والحريات ومختصرها ومطولها، وتكون النساء المتظلمات أتفه من أن يلتفت لمظلمتهن، أو أن ترعى حقوقهن، فطيلة أطوار المحاكمة وإلى غاية اليوم بعد صدور الحكم بإدانة المتهم، كُنَّ مَعْرِضَ تهجم حقوقيين و تصغير شامتين، وتحقير ذكوريين، وكأنه ليس لهن حق في هذا الوطن وفي عدالته وإنصافه، واختار المتعاطفون مع بوعشرين وهيئة دفاعه الهجوم القاسي والضاري عليهن وفي كل الاتجاهات، بدل الدفاع عن الرجل بما يمكن أن يكون معهم من أدلة براءته.
ثمة مؤامرة تحاك بالفعل هدفها الإيقاع بين المواطنين ومؤسساتهم الضامنة لحقوقهم، وتغليط الرأي العام الوطني والدولي، بركوب شعارات ظاهرها الحريات والحقوق وباطنها تكريس الظلم والاستعباد والمتاجرة في الملفات والقضايا الحقوقية وتوفير غطاء للتدخلات الأجنبية المغرضة ضد بلادنا والإساءة لسمعتها، وخدمة أجندات أعدائها، الذين لا تهمهم ديموقراطيتنا ولا مكتسباتنا الحقوقية في مجالات تحرير الأرض والإنسان.
لقد كشفت تصريحات مستنكري متابعة بوعشرين ومحاكمته والحكم عليه، عن عكس كل ما تتباكى عليه من انتهاكات للحقوق والحريات والعدالة المستقلة، برفضها لهذه الحقوق في حق النساء المتظلمات، وتدخلها في العدالة المستقلة بابتزازها واستفزازها وطلب التواطؤ لإقبار الملف وطيه وسد الآذان وإغماض العين عن جرائم وجنايات. والحال أننا في أواخر القرن الماضي، شهدت بلادنا تداول ملف جنائي خطير في ما كان يعرف بـ “محاكمة القرن” للمطالبة بالقصاص من عميد الشرطة الممتاز مصطفى ثابت، الذي توبع بجرائم الاحتجاز والاغتصاب لعدد من النساء، ولم تكن له “حصانة” ولا “قداسة” الصحفي بوعشرين، ولم يتمتع ببكائيات حقوقيين وخطباء نظرية المؤامرة والدس السياسي، ولم يشفع له منصبه في الأمن وأجهزته للإفلات من العقاب، ولم يحظ بتعاطف دولي وإنساني، وأخذت العدالة مجراها الطبيعي الذي انتهت فيه إلى إدانته والحكم عليه بالإعدام وتنفيذه، وطي ملفه طيا نهائيا بحكم القضاء.
لهؤلاء الذين لا يزالون يشغبون على عدالة بلادهم، ويركبون قضية بوعشرين لتصفية حسابات خاصة معروفة، والإساءة للوطن والمواطنين، ويرفعون شعارات النضال من أجل حرية الرأي والتعبير في غير موضعها ومساقها، نقول إن البطولة ليست في الانتصار على نساء مستضعفات، وابتزاز العواطف الإنسانية النبيلة لشعبنا التواق للحرية، بل في الانتصار على أهوائهم وأنانياتهم المفرطة، وليس بمثل خرجاتهم المجانية وبؤس خطابهم الحقوقي المغالط، ومزايداتهم في ملف المواطن بوعشرين باسم الصحافة وحرية التعبير والرأي، وطلب الإفلات من الحساب والعقاب، وإسقاط التهم والمتابعات، يمكن للمغرب الحقوقي والديموقراطي أن يحقق العدالة والإنصاف والمساواة بين جميع مواطنيه، كبيرهم وصغيرهم، قويهم وضعيفهم، ذكرهم وأنثاهم، غنيهم وفقيرهم، صحفييهم وصحفياتهم.