الفردوس يكتب : في معنى الكفاءة والاستحقاق
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
لا يمكن لمشاريع ديمقراطية وتنموية كبرى وحيوية أن تدبر بعقليات مترددة وعاجزة عن المبادرة وتحمل المسؤولية، ولأن الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش المجيد، كان حاسما في التأكيد على ضرورة الربط بين الجيل الجديد من المشاريع القادمة والنخب الجديدة من الكفاءات السياسية والإدارية والتدبيرية، من أجل الوفاء بالالتزامات الإصلاحية والرهان على تنزيلها وتفعيلها، فإنه بات من المتعين والواجب تحديد ملامح ومواصفات هذه النخب التي ستسند لها مهام مرافقة الجيل الجديد من المشاريع الإصلاحية، أي تحقيق التناسب الذي أشار إليه جلالته بين معياري الكفاءة والاستحقاق، الكفاءة الشخصية العالية المستوى للنخبة المطلوبة، والمؤدية إلى التكليف بالمهام المناسبة وإسناد مناصب المسؤولية. وهذا لا يعني أن المؤسسات الحالية من حكومة وإدارات لا تتوفر على عدد من الكفاءات العامة، بل يعني أن المطلوب هو الكفاءات الخاصة المرتبطة بالقدرة على مواكبة المرحلة الجديدة، وضمان الارتقاء بمستوى العمل وتحقيق التحول الجوهري المأمول.
ويمكننا تلمس ملامح هذه النخبة من الكفاءات المنقب عنها، والمتوافقة مع متطلبات المرحلة الجديدة، في الخطاب الملكي من خلال المعيارين اللذين حددهما الخطاب أساسا لتجديد النخب ومناصب المسؤولية، وهما معيارا الكفاءة والاستحقاق.
فالكفاءة تقاس، كما ورد في الخطاب الملكي، بالقدرة على الإنجاز والفعل في الوقت المطلوب، والاستخدام الأمثل للموارد المتوفرة بهدف زيادة المردودية والإنتاجية، بحيث تَعْكِسُ فعالية الكفاءة، في تدابيرها وتدخلاتها، حجم الرهانات والتحديات التي تطرحها المشاريع الهيكلية الكبرى، فيتم السير في التدبير والإنجاز بسرعة واحدة وإيقاع متواقت ومتواز. فإن كانت السرعتان متفاوتتين وقع الاختلال، وحصل أمران: عجز المسؤول وضعف أدائه، وفشل المشروع وجموده، وأدى ذلك إلى إحباط المواطنين بسبب عدم الاستجابة لانتظاراتهم أو تأخيرها.
أما الاستحقاق فيرتبط بالأحقية في المنصب بناء على التناسب بين الكفاءة العالية من جهة، وأهمية المنصب والمسؤولية من جهة أخرى، فقاعدة التكليف بالمهام والمسؤوليات في المناصب الحكومية والإدارية وغيرها من المناصب مبنية على وضع الكفاءة في المكان المناسب، فقد يكون المسؤول على درجة عالية من الكفاءة في مجال تخصصه أو في ميدان من الميادين، لكن كفاءته لا تؤهله لتحمل مسؤولية في منصبٍ لا يتناسب مع كفاءته، ولهذا كان لابد من زيادة معيار الاستحقاق على معيار الكفاءة لتحقيق التناسب والمماثلة بين الشخص المسؤول ومنصب المسؤولية، لضمان النجاعة في القيام بالمهام.
إن الأهلية لمناصب المسؤولية بناء على معياري الكفاءة والاستحقاق، كما ورد بهما التوجيه الملكي السامي، ليست أهلية عامة، وإنما تُحَدَّدُ من خلال القدرات والمواصفات الآتية:
ـ القدرة على الإنصات العميق لنبض المجتمع والقرب من المواطنين وانشغالاتهم والتجاوب مع الانتظارات
ـ القدرة على استيعاب التحولات في المحيطين الإقليمي والدولي
ـ القدرة على رسم الخطط والاستراتيجيات ووضع الآليات لتنزيل وتفعيل البرامج تنزيلا سليما، والرفع من نجاعتها على أساس التكامل والانسجام
ـ القدرة على ترصيد المكتسبات واستشراف المستقبل
ـ القدرة على المبادرة والاجتهاد والتوفر على قوة اقتراحية
ـ القدرة على الإبداع والابتكار
ـ القدرة على الحوار والتواصل والمشاركة والعمل في إطار فريق منسجم ومتكامل ومتعاون
ـ القدرة على حل المشاكل وتذليل الصعوبات
ـ القدرة على وضع برامج للتقويم والمراجعة والدعم، وسد الخلل ومعالجة الاختلالات وتدبير المخاطر، والاعتراف بالخطأ كمقدمة لتصحيحه
ـ القدرة على مواكبة الزمن الطبيعي للمشاريع، وتسريع وتيرة الإنجاز، وسرعة التدخل وعدم تأخيره
ـ القدرة على تحديث أساليب العمل في دواليب المسؤولية
ـ القدرة على الإقناع والدفاع عن الاختيارات
ـ القدرة على استثمار الممكن لتحقيق الفعالية المطلوبة بدل الشكوى من الظروف والإكراهات وانتظار ارتفاعها وزوالها
ـ القدرة على الانضباط والالتزام بروح المسؤولية
ـ القدرة على الانفتاح على الخبرات الأخرى التي تغني تجربة تحمل المسؤولية.
هذه بعض من أهم القدرات التي ينبغي توفرها في الكفاءة المدبرة، والتي يمكن اختصارها جميعها في القدرة على الفعل والتفاعل. أما المواصفات الشخصية والخُلقية فإن أهمها التشبع بروح الوطنية وقيم المواطنة، بكل ما تستلزمه من بذل وتضحية وأمانة وثقة ورعاية المصلحة العامة، والسمو عن الأغراض الشخصية الضيقة، والتجرد لخدمة الصالح العام.
ومع كل ما ذكرناه، فإن الكفاءة المؤهلة لاستحقاق منصب المسؤولية، ليست كيانا جاهزا ومكتملا بالكلية، بل هي سيرورة وصيرورة دائمة من أجل الإغناء والتحسين المستمرين والمتواصلين، عن طريق التفاعل الإيجابي مع الواقع، والتكيف مع المستجدات والتكوين المستمر والمتجدد. فالكفاءات والنخب تُصنع وتُهيأ وتَتَأطّر في المؤسسات المحتضنة لها، وضمن آليات الاستقطاب والإفراز ( إذ لا إفراز بدون استقطاب)، وفي وسط ثقافي وسياسي واقتصادي ديمقراطي مفتوح على البحث عن الأرقى والأفضل والأحسن والأجود والأنجع، والتداول بشأن الارتقاء بموارده البشرية خصوصا من شبابه الطموح نساء ورجالا. وما لم تكن هذه الحاضنات السياسية والجمعوية والاجتماعية مؤهلة بدورها لأداء مهامها التأطيرية والتكوينية في صناعة النخب الكفأة، التي تكون قاعدة للاستقطاب والانتخاب والاختيار من أجل التكليف بالمهام والمسؤوليات الوطنية، فإننا سَنَجِدُ أَنْفُسَنَا أمام ندرة لهذه النخب والكفاءات الجديدة التي من المفروض أن تفرزها هذه القنوات والخَزَّانات والحاضنات، وسنعجز عن تغذية مناصب المسؤولية بها، ليس لأننا لا نتوفر على هذه الكفاءات والنخب، بل لأننا نجهلها ولم نستقطبها ولم نفرزها ونؤهلها عبر تنافسية سياسية وإدارية طبيعية تسمح لها بالظهور والبروز، ونيل وسام “الكفاءة والاستحقاق”.