الفردوس يكتب : منطق العصابة
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
لا حديث لسكان مخيمات الاحتجاز لدى عصابة البوليزاريو، إلا عن المساعدات الإنسانية الموجهة إليهم لمحاربة تفشي وباء كورونا، إذ تناهت إلى مسامعهم أرقام المبالغ المالية المخصصة من قبل العديد من المنظمات القارية والدول الأوروبية (الاتحاد الأوروبي، سويسرا، ألمانيا، إيطاليا، النرويج…) وبعض الدول في القارة الأمريكية (كندا) وجمعيات المجتمع المدني (إسبانيا…)، والتي قدر مجموعها في أزيد من 12 مليون دولار، ناهيك عن المساعدات العينية المتمثلة في المواد الغذائية وغيرها، والتي لم يجدوا لها أثرا في واقعهم وأوضاعهم الاجتماعية المزرية خلال الظرفية الوبائية التي تشهدها المخيمات، وتتكتم عليها قيادات العصابة، وتفرض حولها تعتيما كاملا، وتنشر بشأنها بلاغات متضاربة، تخدم الأجندات السياسية والمصالح الشخصية لقوى النزاع والضغط داخل العصابة الانفصالية.
فقديما قيل: «إذا اختلف اللصوص ظهر المسروق»، فقد كانت قيادة العصابة تنكر أن تكون قد توصلت بمساعدات مالية مخصصة لمحاربة الوباء داخل المخيمات، رغم توجيهها نداءات مبكرة لاستجداء الصدقات وجمع الأموال، ثم ظهرت الأرقام من قبل المانحين، وتحرك برلمانيون من الاتحاد الأوروبي وعدد من الجهات المانحة للمطالبة بالتحقيق في مسارات المساعدات ومآلاتها، ومدى استفادة ساكنة المخيمات منها، وخلال الأسبوع المنصرم طفت إلى سطح الأخبار في المخيمات، أحاديث عن صراعات بين أقطاب العصابة وقياداتها حول اقتسام المسروق والمختلس، بين مسؤولين ينفون علمهم بهذه الأموال المخصصة لمحاربة كورونا، وبين من يهون من مبلغها وقيمتها، وبين من يدرجها ضمن المساعدات العينية والغذائية وليس النقدية، وبين من يحتسبها ضمن المساعدات السنوية الرسمية والتقليدية التي اعتادت دول الاتحاد الأوروبي تقديمها منذ ما يناهز الثلاثين سنة.
فلا هذه المساعدات الإنسانية الدائمة، ظهر لها أثر في حياة المحتجزين، ولا المساعدات الاستثنائية والظرفية لإقامة منظومة صحية واجتماعية بالمخيمات تتكفل بحالات الإصابة، ولا قدمت قيادة العصابة جردا لمصارفها، ولا لائحة للمستفيدين منها. ولكي تتستر العصابة الانفصالية على هذه الفضيحة، وحتى تبعد عن نفسها تهمة تحويل المساعدات المالية، وتتفادى الإجابة عن سؤال لائحة المستفيدين، تفرض تعتيما على الوضعية الوبائية بالمخيمات وتمنع التصريح بالحالات الحقيقية للإصابات والوفيات، وتوجه الأخبار والبلاغات في اتجاهات متضاربة لاستثمارها داخليا وخارجيا، تارة بابتزاز المساعدات عن طريق الاستغاثة ووصف أوضاع المحتجزين والرهائن بالكارثية، وتأكيد تفشي الوباء، وتارة بإنكار وجود حالات الإصابة أو التقليل منها، تفاديا لتقديم الحساب عن المستفيدين.
وتتصور قيادة العصابة أنه بهذه الطريقة في إدارة الوضعية الوبائية بمخيمات الاحتجاز، يمكنها أن تضرب عصفورين بحجر، أن تتلاعب بالمساعدات الإنسانية المقدمة سواء الرسمي الدائم منها أو الاستثنائي الظرفي، وأن تخلط في أذهان المحتجزين المضللين بين المساعدات العينية والمساعدات النقدية، فتعتبر الفتات من المواد الغذائية والاستهلاكية، التي توزعها في المخيمات، هو كل هذه المساعدات التي توصلت أجهزتها بها، من غير أن تقدم جردا ببيانات شفافة ونزيهة، تعلن أمام الملأ. والحقيقة أن ما يصل إلى مخيمات الاحتجاز، هذا إن وصل، ليس إلا البقية المتبقية من المساعدات الإنسانية، بعد اقتطاع نسبة الضريبة الجزائرية عليها، واقتسام نسب أخرى بين قيادات وعائلات وقرابات ذوي النفوذ في صفوف قيادة العصابة، ثم توجيه جزء آخر من هذه المساعدات خارج أغراضها الإنسانية، وهو دعم البنيات العسكرية والحربية الإرهابية للعصابة.
ولا تخرج المساعدات العينية أو المالية الاستثنائية المستعجلة الممنوحة لمواجهة تداعيات وباء كورونا داخل المخيمات، عن هذا المصير والمسار الملتوي، الذي يجتمع فيه التلاعب بالعقول والمشاعر الإنسانية، بالتلاعب بالمساعدات وتحويلها عن وجهتها، وتوجيهها لخدمة العدوان والظلم والاغتناء على حساب المستضعفين.
لقد نبه المغرب، ومن باب أخلاقي قبل كل شيء، غير ما مرة إلى ضرورة إخضاع المساعدات الإنسانية الموجهة لساكنة مخيمات الاحتجاز، لمراقبة صرفها ومصارفها، وإلزام العصابة الانفصالية ومعها قيادتها الجزائرية، على تقديم الحساب عنها، وبيان أوجه الاستفادة والمستفيدين منها، وتعالت، منذ أعوام، أصوات من داخل الدول والهيئات والمنظمات المانحة، بعد أن زكمت الأنوفَ رائحةُ الفساد والاختلاس والسرقة والتحويل في ملف المساعدات الإنسانية الموجهة لمخيمات الرهن والاحتجاز، والمسماة ظلما بمخيمات اللاجئين، وهم الخارجون عن كل إحصاء، والممنوعون من إعلان هويتهم، والمحرومون من حرياتهم في التنقل والسفر واختيار مصيرهم، والممسك برقابهم في أسواق النخاسة الدولية، والذين تبيض وضعياتهم ذهبا لأفراد العصابة التي تحتجزهم.
إن الدول والمنظمات والجمعيات المانحة وكذا دافعي الضرائب في دول المعمور التي تساهم في رفع حسابات قيمة الدعم والمساعدة الموجهة لأبناء مخيمات الاحتجاز لدى عصابة البوليزاريو، مدعوة للنظر في انحراف هذا العمل الخيري الإنساني عن أهدافه النبيلة، بما يزيده من معاناة المحتجزين، وبما يرفعه من أرصدة قيادات العصابة الانفصالية، وبما يطيله من النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، والذي لا تريد الجزائر ولا دُماها المتحركة في تيندوف وقفه والتماس حل سياسي نهائي وعادل ودائم له، لما سيقطعه من طريق عليها لتنفيذ أجندتها العدوانية على المغرب دولة وشعبا، وأرضا وتاريخا. وأول ما يتعين إنسانيا وأخلاقيا وقانونيا بعد تعبير الضمائر الحية للدول المانحة وللمنظمات الدولية، عن قلقها إزاء مصير الملايين من الدولارات الرسمية والمناسباتية المقدمة نقديا لمساعدة أبناء المخيمات، والأطنان من المساعدات الغذائية والعينية، التي ظهرت في أسواق دول الجوار تباع وتشترى، هو فتح تحقيق عاجل وشامل بناء على القرارات والتوصيات العديدة الصادرة من هيئات دولية، في الموضوع، وعلى رأسها التوصية الصادرة عن المكتب الأوروبي لمحاربة الغش، والمضمنة في تقريره المنشور عام 2015، والتي تدعو إلى إجراء إحصاء رسمي للمستفيدين من هذه المساعدات الإنسانية.
ولو لم تكن قيادة العصابة قد نهبت بالفعل هذه المساعدات، ولا تزال، وهي عصب قوتها وشوكتها على المحتجزين، بعد البترول الجزائري، لما هاجمت بعنف مثل هذه التوصيات، ولما اتهمت الأصواتَ المطالبةَ بالتحقيق في دول الاتحاد الأوروبي خاصة، بالعمالة للمغرب. فالذي لم يسرق ولم ينهب لا يضره أن يقدم الحساب عن أموال وضعت رهن إشارته وصَرَفَها في مواضعها المحددة والمستحقة لها، كما لا يعيبه أو ينقص منه أن يطلب منه تقديم لائحة المستفيدين. ولكن منطق العصابة، لا المؤسسة المسؤولة، هو الذي يفرض نفسه على هذه المساعدات الإنسانية المهدورة والمغدورة.