الفردوس يكتب : من ثلاجة إلى أخرى ..
بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //
يكاد التأخر الكبير في إصدار القوانين والمراسيم التنظيمية والتطبيقية الحيوية المقررة بموجب الدستور، يكون ظاهرة عامة في التدبير التشريعي للقضايا الجوهرية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة باستقرار البلاد ونمائها واستحقاقاتها الكبرى عموما، والتي لا تقبل التأجيل والإهمال والانتظار أكثر مما انتظرت وعمرت. إذ يحدد الدستور نفسه وعيَ المُشَرِّع بهذا البعد الزمني في إرساء مشاريع القوانين وإخراجها والمصادقة عليها وتنزيلها وتفعيلها، من خلال حصر الغلاف الزمني وتدقيق الآجال المخصصة لإصدار القوانين ذات الطبيعة الجوهرية والحيوية الكفيلة بحل معضلات تتعلق برفع ضرر عام أو بإنصاف شمولي أو بتحقيق تنمية.
ومناسبة هذا التقرير مصادقة الغرفة الأولى للبرلمان على القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، الذي أوصى به دستور المملكة 2011، أي قبل ثمان سنوات. وكان من المفروض، بناء على التوصية الدستورية، أن تتم المصادقة على هذا القانون في أبعد تقدير عام 2012، أي خلال الولاية التشريعية الأولى التي تلت إقرار الدستور، حيث ينص الدستور وجوبا على أنه: “تُعرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور”، لكن اقتضت الاختلالات والمخالفات والإهمالات تحت أي مبرر غير مقبول، أن يمتد التأجيل إلى ولايتين تشريعيتين وولايتين حكوميتين.
ولا يزال هذا القانون التنظيمي بعد أن اجتاز بالكاد وبكل الآجال الطويلة والعريضة، امتحان الغرفة الأولى، ينتظر امتحان الغرفة الثانية، قبل إخراجه نهائيا للتنفيذ والتفعيل، خلال السنوات المقبلة، بكل ما سيستتبعه ذلك أيضا من انتظارية أخرى تنضاف إلى انتظارية الشق القانوني والتشريعي، بحجة توفير شروط التنفيذ وظروف التطبيق ومدى الاستعدادات التقنية والإدارية والقطاعية لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، ومستجدات أشكال المقاومة والإهمال والتلكؤ والتأويل، فنكون بذلك أمام إهدارات أخرى للزمن الدستوري الذي لا يقر هذه الممانعات التي تفرغه من فعاليته وزخمه ووعوده ومقاصده القريبة أو المتوسطة أو البعيدة المدى.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار الزخم الكبير والناجع والجريء، الذي انطلق به الخطاب الملكي التاريخي بأجدير في يوليوز عام 2001، لإعادة الاعتبار للأمازيغية لغة وثقافة كمكون من مكونات الهوية الوطنية وكرصيد حضاري مشترك لجميع المغاربة، وأعقبه مباشرة بعد ثلاثة أشهر وضع جلالته طابعه الشريف على الظهير الملكي المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ثم تعيين أعضاء المعهد، وشروعه في إنجاز المهام الموكولة إليه لتثمين الأمازيغية وتفعيل أدواره المساهمة في إدماج الأمازيغية في التعليم والإعلام. وجاءت بعده عمليات دسترة اللغة الأمازيغية واعتبارها لغة رسمية للبلاد إلى جانب شقيقتها اللغة العربية، فإن كل ذلك تم في آجال معقولة إن لم نقل مسرَّعة وموفقة، شكلت في حد ذاتها تحولا نوعيا في التعاطي مع القضايا الوطنية الجوهرية ومع خطاب الإصلاح. فكيف توقف أمر هذه المكتسبات التاريخية الوطنية الكبرى، على قوانين تنظيمية تتيه في حلقة صغيرة وتقنية وإجرائية، كان من المفروض أن لا يستغرق وقت مباشرة العمل عليها، ما حدده دستور المملكة من آجال وحسمه من مواعيد؟.
ورغم أننا لسنا ممن يستعذب إعادة إثارة المشاكل والعقبات والعراقيل، التي انتهت الآن بعد اقتراب المصادقة النهائية على القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فإنه لابد من التذكير بأن سيناريوهات التأخير والتأجيل والمماطلة تطال مشاريع قوانين تنظيمية أخرى لم تعرف طريقها إلى المصادقة، أو تمت المصادقة عليها في الغرفة الأولى في انتظار مصادقة الغرفة الثانية، وعلى رأسها القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والقانون التنظيمي المتعلق بإحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، هذا فضلا عن أن المصادقة النهائية على مشاريع هذه القوانين، لن ينهي إلا المشاكل المتعلقة بالشق التشريعي لهذه القوانين، بعد طول انتظار وخفوت التعبئة المجتمعية، وانطفاء شعلة الحماس، أما المشاكل المرتبطة بالتفعيل والتنزيل والتطبيق، وهي مربط الفرس، ومحك المصداقية، وقياس الأثر المجتمعي، فإنه لا أحد يضمن أن لا يقع فيها تلكؤ وتباطؤ وأخذ ورد، تتأجل معه الاستحقاقات إلى أجل غير مسمى.
فإذا كان انتظار صدور القوانين التنظيمية قد تجاوز ثمان سنوات، لما صادفته من مقاومات وإهمال، فإن البدء في تنزيلها وتطبيقها قد يستغرق وقته أكثر من ذلك في ظل تعقيدات تقنية، وفي ظل بيروقراطية إدارية لا تتوافق مع استعجالية الإصلاحات ومع أهمية الرهانات المعلقة على هذه القوانين. فكم ستنتظر القوانين من زمن للمرور إلى تطبيقها وتنفيذها؟ وقد أعطينا نموذجا سيئا عن نوعية تدبيرنا للزمن التشريعي في مراحل إعدادها وإخراجها.
ليس لنا إلا أن نحذر من خطورة الإصرار على إهدار زمن الإصلاح سواء في شقه التشريعي أو في شقه التنفيذي، والإصرار على عدم الشعور بأهمية الزمن في أي استراتيجية إصلاحية مدققة الآجال والسياقات ونوعية التعبئة لها والفئات أو الجهات أو الهيئات أو البنيات المستهدفة بها، ذلك الزمن الذي يصعب استدراكه إذا ما تم تضييعه وإهمال أخذه بعين الاعتبار في الإرساء أو التنزيل والتفعيل، ويكفي أن الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، المحدد غلافها الزمني في 2015 /2030، قد قطعت خمس سنوات من عمرها، أي استنفذت ثلث غلافها الزمني، ولا يزال القانون الإطار المنظم لها، يراوح مكانه في البرلمان، وقد تدخل الرؤية المذكورة عامها السادس وهي رهينة انتظار هذا القانون التنظيمي الحاسم.
حسبنا أن نفكر في تفعيل حزمة من الإجراءات الاستعجالية التنفيذية والتطبيقية الكفيلة باستدراك ما أفسدناه وأهدرناه من زمن تشريعي، وذلك بالانكباب على تذليل الصعوبات والعراقيل في تنفيذ القوانين المنتظر المصادقة عليها، والعمل على التفعيل الأمثل لها، حتى لا تتدحرج من ثلاجة السلطة التشريعية إلى ثلاجة السلطة التنفيذية، ثم منها إلى مجمدات الإدارات والقطاعات المعنية بها.