الفردوس يكتب : مهارة قلب الحقائق

الفردوس يكتب : مهارة قلب الحقائق

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

تتعرض بلادنا بين الفينة والأخرى لحملات تستهدف الإساءة لمصداقية توجهها الحقوقي والديمقراطي، ولجديتها في حماية الحريات والحقوق وفي إرساء دولة المؤسسات والحق والقانون، ويتبين في كثير من الملفات التي ترافع فيها منظمات وهيئات دولية حقوقية، بشأن حالات معزولة ووقائع جزئية تدفع بها جهات ما إلى الواجهة، وتلبسها لبوس انتهاكات حريات التعبير والدوس على الحقوق، أنها ملفات تحوم حولها مغالطات وتلبيسات وتدليسات، ولم تتحر فيها هذه المنظمات والهيئات الدولية بما يكفي، ولم تحقق بشأنها تحقيقا موضوعيا ونزيها وحياديا، ورددت بخصوصها الإشاعات نفسها التي يدحضها الواقع ويجرمها القانون. فأن تسكت هذه المنظمات الدولية عن وقائع مثيلة تشهدها الساحات العمومية الأوروبية والأمريكية ومحاكم دولها الكبرى، التي تطبق القانون على الجميع، ولا تلتفت إلى تعاطف مزيف، ولا إلى ضغط أو تدخل من أي كان، هذا إن كان هناك ضغط أو تدخل، ثم ترى هذه الهيئات والمنظمات قد تخصصت في كل صغيرة ومجهرية في المغرب، ترفعها في تقاريرها التنديدية إلى جريمة، وإلى انتهاك مفضوح للحقوق وللحريات، وتهرول في كل اتجاه لإدانة المغرب، رغم الطابع الجنائي والجرمي أو الجنحي لملف يعرض على القضاء المغربي للنظر فيه، وتحترم فيه مساطر العرض القانوني على العدالة، وآليات إعمال العدالة والقانون وضمانات المحاكمة العادلة.

ففي الأسبوع الفارط، وكعادتها في الكيل بمكيالين ومعيارين، وفي تبني الإشاعة والمغالطة، سارعت منظمة العفو الدولية المعروفة اختصارا بـ “أمنستي”، مع احترامنا الكامل للمبادئ والأهداف المعلنة لهذه المنظمة، سارعت إلى التنديد بقوة، في تقرير لها، بواقعة اعتقال مغن شاب بالمغرب، على خلفية ظهوره في شريط “فيديو” على حسابه بموقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وهو في حالة هيجان لم يترك لفظا بذيئا ولا عبارة خادشة للحياء العام، ولا قذفا ولا سبا ولا شتما إلا وأصاب به أسرة الأمن الوطني، وشمل هذا القذف المساس بأعراض الساهرين على هذا الجهاز، وبوضعهم الاعتباري، والطعن في شرفهم وشرف أمهاتهم ونسائهم. الأمر الذي تدينه كل الشرائع والقوانين والأخلاق الإنسانية، ووُضِعت له في قوانين جميع دول المعمور مساطر وآليات للمتابعة والمحاسبة والمعاقبة.

وحينما يطبقها المغرب ويرتب على منتهكي الحريات والحقوق والمسيئين إلى الغير، والمعتدين في القول والفعل، متابعات، تتفجر الإنسانية والعواطف الحقوقية الجياشة من قلوب متفطرة بالرحمة ومشعة بالعدل، لتطالب السلطات المغربية بالإفراج الفوري عن المخطئين، وتنادي بإفلات الجناة من العقاب، أما المتضررون من تصرفاتهم فلا بواكي لهم، ولا سامع لشكاواهم، ولا عدالة تحميهم، ولا حقوق محفوظة لهم، ولا جابر لخواطرهم، ولا اعتبار يقام لا للقانون ولا للعدالة ولا لدولة المؤسسات والحريات والحقوق، ولا حتى لمجرد اعتذار عن الإساءة إليهم والتطاول على أسرهم وعائلاتهم وتهديد طمأنينتهم.

وحتى تكتمل التراجيديا الحقوقية لتقرير منظمة “أمنستي” في ابتزاز التعاطف مع مطالبها في الإفلات من القانون والعدالة لصالح منتهكي الحريات والحقوق، الْتفَّت على واقعة مسؤولية المغني المتابع في ملف السب والشتم والقذف في حق هيئة وأسرة، وعائلات ونساء محترمات بعبارات تحقيرية وبذيئة، من خلال إلصاق بطاقة مناضل من أجل “حرية التعبير” بالمغني المُتابَع، وذاك لأن له أغنية ينتقد فيها الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد، وهكذا يتم تحويل موضوع المتابعة برمته من قضية جنائية إلى قضية حقوقية، رغم كل التوضيحات التي قدمتها السلطات المغربية في الموضوع.

فهل قدرنا أن نظل تحت رحمة هذا السيناريو الابتزازي البئيس المثير للاشمئزاز، والذي يستهدف تعطيل دولة المؤسسات والحقوق، والإجهاز على العدالة بطلب استثناءات وإعفاءات منها، فلا تطال فلانا لأنه فنان وفلانا لأنه شخصية بارزة ومعروفة وعمومية، وفلانا لأنه محل تعاطف الجماهير على موقف صدر منه سابقا أو لاحقا، وفلانا لأنه أصلا مناضل ومعارض ومنتقد ورافض، وله قصيدة شعرية أو أنشودة أو أغنية أو مقالة ضد الدولة أو النظام…

لم نسمع بكل هذه الضجة الحقوقية الدولية حينما تم منع فنانين، في فرنسا وفي غيرها من الدول الديمقراطية، من إحياء حفلات أو عروض فنية، بسبب ما اتهموا به من خرق للقوانين، وإساءة لقيم التعايش، وترويج لخطابات الكراهية والعنصرية، ومنهم من تعرض لعقوبات سجنية ولغرامات، ومنعته المحاكم من التجول بعروضه في مسارح البلد ( نموذج الفنان الفكاهي الفرنسي ديودوني)، وتعقبته الصحافة وسائل الإعلام بالتعاطف والتأييد، أو بالنقد والتجريح، من غير أن تسيء إلى مؤسسات القضاء أو أن تنتصب لهدم الوطن وثوابته واختياراته.

وقد تابعنا أول أمس، في الأخبار الدولية كيف أن حكومة المملكة الإسبانية قررت ترحيل وطرد أفراد من المغاربة المقيمين بديارها على خلفية مشاركتهم في احتجاجات مساندة لانفصال إقليم كتالونيا عن التراب الإسباني، وعلى خلفية التظاهر لإطلاق سراح مسؤولين حزبيين انفصاليين من الإقليم، ولم نسمع أحدا من هذه الهيئات والمنظمات المتخصصة في البحث المجهري عن وقائع مماثلة في المغرب، يتدخل في السيادة الإسبانية، أو يسحب قاموسا من الألفاظ الحقوقية الإنسانية على واقعة الترحيل والطرد. وقد كانت هذه الهيئات والمنظمات الدولية إلى غاية أشهر قريبة تندد، تحت راية حرية التعبير والصحافة والرأي، بمضايقة المغرب لوفود أجنبية، وقيامه بترحيل عدد من الأشخاص الأجانب الذين دخلوا ترابه الوطني باسم الصحافة والإعلام أو باسم المجتمع المدني للخوض في قضايا وحدته الترابية ودعم الانفصال وتهديد الأمن العام.

من حق هذه المنظمات والهيئات الإنسانية الدولية أن تراقب أوضاع حقوق الإنسان في العالم في حدود اختصاصاتها، وأن تتقدم بتقاريرها إلى الرأي العام الدولي، وأن تضغط من أجل رفع الظلم والعدوان، لكن ليس من حقها أن تنهج نهج الانتقائية بين الدول وبين الملفات، وأن تسخط وترضى وتغضب عن من تشاء وبمزاجية مقيتة وبغيضة، وأن توزع صكوك الغفران والبراءة والإدانة بمعايير مزدوجة، وأن تخلط وتخبط، وتتبنى الإشاعات والأكاذيب الجاهزة، وتتنكر للتقصي والتحقيق والتحري الذي يدخل في صميم عملها لإحقاق الحق ومنع الانتهاكات للحريات والحقوق، وهي إن حادت عن هذه المهمة النبيلة في عملها، فإنما تكرس للظلم العالمي، وتزيف الحقائق، وتعطي الشرعية لانتهاك حقوق الإنسان كيفما كان وأينما كان، وتفتح بابا للسمسرة والمتاجرة في استقرار الشعوب وأمنها وحرياتها، وتوفر بغطائها الحقوقي النبيل، وبتقاريرها المعيبة والناقصة والمشوهة والموجهة، ظروفا مثالية لتشجيع النزعات العدوانية والسلوكات غير المدنية.

اترك تعليقاً

Share via