الفردوس يكتب : نفق المديونية

الفردوس يكتب : نفق المديونية

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

لم يعد ممكنا إخفاء شبح المديونية الخارجية المتضخم والمخيم على السيادة الاقتصادية والمالية للبلاد، ولا التهوين من أمره بما يصرح به رئيس الحكومة من أن تضخم هذه المديونية متحكم فيه، وأن مؤشرات تدبيرها تتحسن بالنظر إلى توجيه القروض إلى مجال الاستثمار. وذاك أن توجيه الاقتراضات إلى مجال الاستثمار والإنتاج هو نفسه غير متحكم فيه بالنظر إلى هشاشة النتائج المتحصل عليها في مجالات الاستثمار، وبالنظر أيضا إلى عدم وجود انعكاسات إيجابية لهذه القروض على التنمية الاقتصادية والبشرية التي تعني الربح وزيادة المداخيل وضخ فرص جديدة للشغل والإنتاج، والتي تسمح جميعها بضمان أداء هذه الديون وفوائدها المتراكمة سنة بعد أخرى.

من حق الحكومة، في غياب الإبداع والابتكار عن برامجها التنموية وندرة مصادر تمويل سياساتها العمومية، أن تلجأ إلى القروض الداخلية والخارجية، لكن من حق وطن تقترض باسمه وترهن مستقبله ومستقبل أبنائه، أن يسألها هل فكرت في كيفية تسديد هذه القروض وكل ملحقاتها من فوائد؟ وهل هي الحكومة نفسها التي ستكون مدبرة للشأن العام في العقود القادمة لمحاسبتها ومساءلتها عن إثقال كاهل البلاد بالديون، والتفريط في سيادتها المالية والاقتصادية لصالح المؤسسات المالية الدولية المانحة؟ وهل العواقب السلبية الخطيرة لسياسة اللجوء الدائم إلى الاقتراض في سداد العجز المالي، لا تهمها في شيء ما دامت هذه العواقب في حكم الغيب الذي ستغيب عنه الحكومة الحالية وتسجله في الإرث الثقيل الذي ستتسلمه الحكومات بعدها؟ كل هذه الأسئلة المؤجلة وغيرها، تتهرب الحكومة من الإجابة عنها، لأنها لا تدخل ضمن أفق تفكيرها أو تدبيرها، ما دام الذي يهمها هو تنفيس أزمة قائمة وحل مشكل حالي، ولو من رصيد مستقبلي وطني ستكون فيه للمؤسسات المالية الدولية المانحة والدول المقرضة، الكلمة الفصل في تحديده والحجز عليه.

إن الابتسامة العريضة للحكومة المنتشية بكون الولوج إلى الاستدانة الخارجية يعكس ما تحظى به من ثقة لدى المؤسسات المالية والدول المنفقة بسخاء على سَدِّ العجز المالي لميزانيات البلاد، هي ابتسامة وانتشاء في غير محلهما، لأن الوضعية الكارثية لمديونية تتضخم سنة عن أخرى، وتترشح للارتفاع مع كل قرض أو تمويل مشروع، إلى درجة أنها باتت تتجاوز قيمتها قيمة الثروة التي ينتجها الاقتصاد الوطني سنويا، لم تعد مجرد ورقة ضغط تستعملها المعارضة السياسية في نقد السياسة المالية والاقتصادية الحكومية، بل دقت مؤسسات دستورية ومالية بشأنها نواقيس الخطر، في أكثر من مناسبة وسياق، ونعتقد أن لهذه المؤسسات من المصداقية والشفافية والحياد في تقاريرها ما يجعلها بمنأى عن منازعة الحكومة اختصاصاتها أو الاعتراض على سياساتها، فمن المجلس الأعلى للحسابات إلى بنك المغرب إلى المندوبية السامية للتخطيط، هناك إجماع على أن البلاد قد تجاوزت الخطوط الحمراء في نسبة المديونية مقارنة مع الناتج الداخلي الخام، حيث إن نسبة 60 في المائة المحددة برلمانيا كسقف للإنذار بالخطر، ارتفعت في مديونيتنا إلى حدود نهاية عام 2019 إلى 91 في المائة من الناتج الداخلي الخام، ولم تعد تكفي معها الإنذارات ودق نواقيس الخطر الذي ولجناه بابتسامة حكومية عريضة. لقد استلمت الحكومة السابقة مديونية البلاد في حدود نسبة 51 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهي اليوم بعد مرور ثماني سنوات وفي عهد الحكومة الحالية تتطور النسبة إلى 91 في المائة. هذا دون أن نشير إلى الدين الداخلي الذي تلجأ إليه الحكومة من مدخرات المغاربة في الأبناك وشركات التأمين وصندوق الإيداع والتدبير وصناديق التقاعد، حتى أنه يمكننا أن نعد الحكومة المقترض الأول من هذه البنوك والصناديق.

ليست المؤسسات الدستورية والمالية الوطنية وحدها التي خرجت عن صمتها لتنذر بالخطر، بل إن البنك الدولي المانح نفسه قد نبه في تقريره الأخير لعام 2020 حول إحصاء الديون الدولية، إلى أن المغرب من بين البلدان المعرضة بسبب من أعباء وتحملات الديون لصدمات اقتصادية موجعة. كل ذلك والابتسامة العريضة لا تفارق محيا الحكومة ووجهها البشوش والضاحك.
لم يعد في الوقت متسع لتدارك هذا الانحدار الرهيب، لكنه يمكن وقفه ووقف النزيف عند هذا الحد، وذلك بالحد من شراهة الحكومة إلى الديون لحل عجزها عن خلق الثروات، وجعل خيار اللجوء إلى الدين محفوفا بصعوبات بدل تركه كخيار سهل ومتيسر للحكومة، واعتبار المديونية ملفا سياسيا يجب التداول المجتمعي والسياسي حوله، لأن الجميع معني به بصفة هذا الجميع من سيؤدي هذا الدين وفوائده، فالحكومة لم تقترض ولم تستدن إلا برهائن الديون وخدامه وقدرتهم على سداده من جهودهم وعرقهم المستنزف. كما أنه صار من الواجب في سياق إرساء النموذج التنموي الجديد وضع آليات لمراقبة مصارف الديون المزعوم أنها مرصودة للاستثمار، ومدى إسهامها الفعلي في التنمية والاستثمار وخلق الثروات، بدل أن تكون هي مستنزف الثروات.
إن بلادنا وهي تسعى إلى تعزيز وبسط سيادتها الترابية والبحرية والجوية على مجالها الجغرافي، لا ينبغي أن تفصل بين هذه السيادة والسيادة المالية والاقتصادية التي تقوم الحكومة برهنها للمؤسسات المالية الدولية، ضاحكة مستبشرة.

اترك تعليقاً

Share via