مقال رأي: الهيمنة والتحكم: عقول تحت القصف

ذ. ابراهيم الفتاحي

كثر في الايام الأخيرة توظيف مصطلحين اثنين في المعجم السياسي المغربي هما مصطلحا “التحكم” و”الهيمنة”، وقد برزا معا في الصراع المرير بين حزبي الأصالة المعاصرة والعدالة والتنمية، حيث يتهم إخوان بنكيران رفاق العماري بالسعي إلى التحكم في دواليب الدولة من خلال تشديد القبضة على مؤسساتها عبر جيش الأتباع من الموظفين والمسئولين كبارا وصغارا، كما يعتبرونهم الامتداد المكشوف “للدولة العميقة” أو “دولة الظل” أو “الدولة السوداء”، مع الاستعمال المغرض لإعلام مأجور يسهر على تزييف الوعي الجماعي وتشويه الحقائق لصناعة التوجس والخوف، أو على الأقل لزرع الشكوك، الشيء الذي يجعل مهمة الاقناع عسيرة.

تبدو هذه الآلية في نظر أصحابها هي الوحيدة القمينة لمواجهة الايديولوجيا الإسلاموية التي لا يجد خطابها صعوبة كبيرة في السيطرة على النفوس، لان المجتمع المغربي يتوفر على كل المقومات التي تسمح بذلك: الأمية والتخلف والمعاناة الاجتماعية واليأس، عناصر تعطي للماضوية سحرا خاصا في وسط يبحث عن الخلاص، فلا يجد أمامه سوى أمجاد التاريخ التي زينتها أقلام الخيال ونفخت فيها الرواية المتوارثة، واستمرت في تكرارها حتى صارت حقيقة لا مراء فيها، بل فرضت حتى على المحققين في التاريخ والخطاب حذرا كبيرا في نقدها أمام هول السلطة الاجتماعية التي تحميها من مجرد السؤال ناهيكم عن التشكيك، أما الضحد والتفنيد فخطر عظيم قد يفرض على صاحبه العزلة والاضطهاد، أو حتى المنفى الاختياري هربا من مطاردة المجتمع.

تبني محاكاة أمجاد التاريخ في النفوس جسورا نحو الآخرة الآمنة ونحو المتعة الفردانية الضائعة في الدنيا، هناك حيث النفس البشرية في فرادتها تتمتع بالنماذج المثالية لما خسرته في الحياة الدنيا، وفي المقابل يجد خصوم الإسلاموية الشرسين المتهمين بالتحكم في التزييف الإعلامي والنفخ الفضائحي، خصوصا في جانبه الأخلاقي وسيلة لكسر شوكة الإسلاموية المتسعة، والمتهمة بالسعي إلى الهيمنة على مفاصل الدولة. لا فرق بين الإثنين سوى في الوقع الزماني للتزييف: فقوى “الهيمنة” الإسلاموية تزيف الماضي في علاقته بالحاضر حتى يتوههمه الناس سندا حقيقيا للنجاة، مع تضخيم نظرية المؤامرة المحبوكة من الغرب والعلمانيين واليهود والصليبيين، بل حتى من “التماسيح والعفاريت”، فالكل على أهبة الإستعداد لتعكير صفائهم الأخلاقي وتثبيت سوء الظن فيهم خدمة لأجندات شيطانية أو “بانضية” بالتعبير الدارج؛ بينما تشتغل قوى “التحكم” في تزييف الحاضر من خلال التخويف الدائم والترعيب من الواقع الأليم والمستقبل الغامض والاستبداد والإرهاب، وحتى من العزلة الدولية في ظل حكم التيارات الدينية وتوسع سلطتها في دواليب الدولة؛ والنتيجة أن عقول العامة تحت القصف اليومي بالأخبار الجارفة للحقيقة والكذب معا دون تمييزأو تحقيق، فتأسر الوعي الاجتماعي لتتحكم فيه لصالح هذه الفئة أو تلك. فهل الدولة فعلا مهددة بأحد الاثنين: “الهيمنة” أو “التحكم”؟

ليست الدولة هي النظام ولا الحكومة، إنها كيان مستقل عنهما رغم أنها تشملهما، وتتسع الديموقراطية بضيق دائرة النظام داخل الدولة، بينما تتسع دائرة الاستبداد إن حدث العكس، قد تقترب فئة من النظام أكثر من الأخرى، أو تتغلغل في المجتمع أكثر منها، وإن الحديث عن قوى “التحكم” لا يخلو من صواب، كما لا يخلو منه الحديث عن “الهيمنة” أيضا، فالأول موجود فعلا في المنظومة السياسية المغربية منذ قرون، بينما الثاني بدأت مؤشراته تظهر بعد صعود “العدالة والتنمية” وسطوع نجمها، ويتمثل الفرق بينهما في كون الغاية عند “التحكم” وسيلة عند “الهيمنة” والعكس صحيح، يسعى الأول إلى السيطرة على الثروة وتقسيمها بما يضمن لشبكة من العائلات ثراءها ونفوذها، بينما القناعات الإيديولوجية عندها مجرد وسيلة لذلك، حيث تتفرق على اتجاهات حزبية وإيديولوجية شتى: وهي التي تسمى عندنا بالعائلات المخزنية، وقد سبق للصحافية مرية مكريم أن أنجزت تحقيقا في مجلة الأيام سنة 2008 عنوانه “الشبكة الأخطبوتية للعائلات المخزنية”، فأغلبها ذات أصول موريسكية توارثت السلطة والثروة كابرا عن كابر، وعملت جاهدا على حصر الجزء الأكبر من الاقتصاد والتجارة في مجالها، وكلما انفلت عنصر من خارجها وبرز في منظومة الثراء والسلطة سارعت إلى تلقفه بالمصاهرة، والأمثلة كثيرة على ذلك. لكن التغيرات الحاصلة في المجتمع، وتطور وسائل الاتصال جعل القبضة الحديدية للعائلات المخزنية تلين رغما عنها، مما سيفرض عليها البحث عن آليات أخرى، وخير آلية هي الفضاء الحزبي المتمظهر بالديموقراطية والموهم لفئة عريضة من المنتسبين بأهمية اشتغالهم المؤسساتي، رغم أنهم يتحركون فقط في الجزء الظاهر من جبل الجليد، مع الاستعانة بالأعوان ووجهاء القبائل وأصحاب المال ممن راكموا الثروات بأساليب ملتوية، أو عبر التجارة الحرام، لكنهم يخضعون لفئة أخرى أقوى منهم، بفعل هشاشة وضعهم القانوني، وضبتهم بملفات قابلة للطفو في أي لحظة.

وخلافا لمسار “التحكم” فإن “الهيمنة” تحركها قناعات إديولوجية وتحمل مشروعا للحكم له امتداد عميق في التاريخ، وقد ترجع بدايات اشتغاله لعقود من الزمن، تقدم التضحيات الجسام حتى وإن كانت هي حياة الأفراد أنفسهم، وتتخذ الاقتصاد والهيئات المدنية وسيلة لبلوغ ذلك، حيث تقوم على مشروع ضخم أكبر من مصالح الأفراد، حتى وإن وجد في منظومتها أفراد تحركهم مصالحهم الخاصة، لكن تيارها جارف يصعب فيه حفظ المصالح الخاصة إن تبين أنها تسير عكسه.

“الهيمنة” قوة إديولوجية عاصفة، و”التحكم” قوة اقتصادية متغولة، وكلاهما يسحقان المجتمع، فالأولى (أي الهيمنة) تقضي على الاختلاف وتضطهد التفكير وتحاصر الحرية والإبداع، إنها توقع شهادة الوفاة لروح الحضارة حتى وأن شيدت الأبنية والمصانع، وعبدت الطرق وأسست بنيات تحتية قوية، فهي باختصار قاتلة للإنسان- الإنسان، مرضعة للإنسان-الآلة، وخير مثال عنها هي هيمنة الحزب الواحد في الأنظمة التوتاليتارية التي عرفها العالم في العصر الحديث. أما الثاني (أي التحكم) فيقضي على حياة الفئة العريضة من المجتمع بتفقيرها وتبعيتها المعيشية، وحصر الثروة في أيدي فئة ضيقة، يضع سقفا للإغتناء ويحاصر الصفقات الكبرى ليستفيد منها من يدخل في زمرته، فيقتل الانسان باليأس والخوف الدائم من المستقبل، يقبر النشاط والحيوية في النفوس، ويكرس عبودية مقيتة تتوارثها أجيال البسطاء، مثلما يتوارث أجيال زمرتها الثروة والسلطة.

إن مؤشرات الاثنين في الفضاء السياسي المغربي موجودة، “فالهيمنة” مشروع قائم لا يموت، و”التحكم” حاضر من خلال “سلطة الظل” أو “السلطة السوداء” التي صارت أكثر قتامة مع ازدياد الانكشاف في الشأن العام بفعل وسائل الاتصال، ومع تشابك مصائر الدول نتيجة العولمة، لذلك فإن إدارته ومهندسيه هم “عصبة التقنوقراط”، وقد سبق للمفكر حسن أوريد في كتابه “التقنوقراطي” أن تحدث عن دور هذا الأخير، فهو نافع لأن هناك بنيات تحتاجه وتقبله، لكنه مضر حينما يمسك بزمام القرار السياسي، وهناك اشتغال نشيط ديدنه شيطنة المنتخبين وتزيين المعينين، لذلك تجد الاعلام قد امتهن مهاجمة السياسيين المنتخبين في المؤسسات المختلفة، وفضح خروقاتهم وإسالة المداد عنها دون الاقتراب من المعينين، رغم أنهم سلطات مراقبة، ومشرفون على التسيير ولا تقل مسئولياتهم عن زملائهم المنتخبين؛ ومن خلال الاعلام يتم توجيه كل شيء حتى الحراك الشعبي والاحتجاجات الفئوية، فتهاجم المنتخبين وتندد بسياساتهم، حيث تجد مثلا رؤساء المجالس المنتخبة في المدن والبوادي عرضة للنقد والتنقيب في خروقاتهم ومتابعتها خلافا لرجال السلطة المعينين، وهكذا تبقى العقول تحت القصف الإعلامي ويبقى الوعي أسير صحافة ترجمه بالمواقف والأخبار المتضاربة، وحتى الكاذبة والمزيفة، المهم هو أن لا يفهم المواطن حتى لا يبني موقفا ولا اختيارا، ويزداد الأمر سوءا بتمييع الفضاء السياسي وتهجينه بخطاب متدن ورديء، وبإغراق المؤسسات المنتخبة بجحافل الجهلة والوصوليين ممن لا يفقهون شيئا في أدوارهم، لا يقدمون شيئا في المناصب التي اعتلوها، وهم الأعلم قبل غيرهم أنهم لا يملكون ما يخدمون به الوطن داخل هذه المؤسسات، ولكنهم أصروا على ولوجها بكل ما يملكون من مال ومن ولاءات وتبعية لمن سبقوهم بالرداءة، لأن الرديء عادة لا يدعم إلا رديئا أكثر منه أو مثله في أحسن الأحوال، وأغبى الناس يفهم أن الذي يحرص على منصب ليس أهلا له فإن له فيه مآرب أخرى: مآرب شخصية طبعا؛ وبهذه الرداءة في المؤسسات المنتخبة تضعف الديموقراطية وتتعاظم سلطة “التحكم” أو تنتعش سلطة “الهيمنة”، ولأن القاعدة هي “أينما وجدت سلطة وجدت مقاومة”، فإن المقاومة التي تنتج في هذه الحالة قد تكون “التطرف” أو “الخيانة”، وقد تكون “الانحراف” أو “الانتحار”…

ذ. ابراهيم الفتاحي

عضو المكتب الوطني لمنظمة الشبيبة الدستورية

اترك تعليقاً

Share via