الفردوس يكتب : معضلة التفاوتات الاجتماعية والمجالية

الفردوس يكتب : معضلة التفاوتات الاجتماعية والمجالية

بقلم الاستاذ عبدالله الفردوس 

 

أكدت وكالة “رويترز” في تقرير أخير لها عن الأوضاع الاجتماعية في المغرب، ما تمت ملاحظته في أكثر من مناسبة سياسية أو اقتصادية أو إعلامية، وهو البروز الشديد والصارخ للتفاوتات الفئوية والمجالية، معتبرة أن الطفرة التنموية التي يشهدها المغرب لا تشمل فئات وجهات فقيرة بعيدة عن المراكز الحضرية والساحلية، تعتبر، كما سماها التقرير، متخلى عنها ومنسية في ركب التنمية.

والحقيقة أن كلمتي النسيان والتخلي غير واردة في الخطاب التنموي والسياسي، حتى يأتي تقرير جديد ليذكر به، فالتشخيصات التي شملت النموذج التنموي القديم خلص إلى هذه الملاحظة، ويُنتظر أن يتداركها النموذج التنموي الجديد بما حف به من توجيهات ملكية لاستفادة كل الجهات والفئات من فرص التنمية على قدم المساواة من البنيات التحتية إلى المشاريع المدرة للدخل حسب خصوصيات ومؤهلات كل جهة.

المشكل إذا ليس في الانتباه من عدمه، لأن هذا الأمر تحصيل حاصل، بل في التنزيل الأمثل وفي التتبع والتقويم، إلى حين الإرساء الفعلي والناجع لمقاربة عملية وتكاملية واندماجية، تسمح للفئات المهمشة والجهات التي تعاني هشاشة اجتماعية واقتصادية، باللحاق بالطفرة التنموية التي يتحدث عنها تقرير وكالة “رويترز”، وفي ذلك تقع المنافسة والقوة الاقتراحية السياسية للأحزاب، والتشريعية للمؤسسات المنتخبة، والتنفيذية للحكومة والتعاونية للشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين، من أجل فك طوق العزلة والتخلف عن الجهات والفئات المذكورةِ عيِّنة منها في تقرير الوكالة، ومن ثمة بلورة مخططات للعمل التكاملي بين الجهات.

لا تنقص المغرب بكل فاعليه آليات التشخيص والرصد ولا قوة الملاحظة والتنبيه والنقد والتوجيه، كما لا تعوزه التقارير والمذكرات والخلاصات والمناظرات والمناقشات والتصريحات والتحذيرات والتصورات، فقد قتلت موضوع التنمية والفوارق الفئوية والجهوية بحثا وتدقيقا، سواء في إطار بحث الجهوية المتقدمة أو في إطار مناقشة السياسات العمومية والقطاعية الموجهة لمحاربة الهشاشة والفقر والحرمان، كما لا تعوز بلادنا الصراحة اللازمة في تعيين مواطن الخلل والضعف في النموذج التنموي القائم، ورسم خارطة الطريق لنموذج آخر مغاير يستجيب لمتطلبات المرحلة، وإنما ينقصه ترجمة الخطاب التنموي الجديد إلى إجراءات عملية وتمويلات مالية مناسبة وأعمال ريادية ملموسة.

فمنذ العشرية الأولى لهذا القرن ونحن نناقش هذا الموضوع ونزوده بالتصورات وننضجه بالأفكار والمراجعات، ونقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لنستنتج الاستنتاجات نفسها وكأننا نعيد اختراع العجلة من جديد، فيما الفوارق والتفاوتات والتباينات تتوسع مع توسعنا في النقاش والتنظير، فقد دقت ساعة العمل، وآن أوان التوقف عن إعادة إنتاج خطاب التشخيص والتذكير والتحذير والتنبيه والتوجيه، خصوصا بعد انتهاء العشرية الثانية من هذا القرن بقليل من العمل وكثير من النظر المتكرر والتأمل الطويل.

يمكن للنظر وإعادة النظر أن يستمرا في سياق العمل والتنزيل لتدقيق ومراجعة المقاربات، وتحسين الأداء، لكنه لا يمكن الاستمرار في التنظير إلى ما لا نهاية، مع تزايد الحاجة إلى أعمال ملموسة تسمح بتسريع وتيرة ولوج الفئات والجهات المتعثرة والمهمشة إلى خدمات التنمية والاندماج في النسيج الإنتاجي الاقتصادي للثروات الجهوية والوطنية. فمعظم جهات البلاد تتوفر على إمكانات تتناسب مع خصائصها الجغرافية والثقافية والطبيعية، وتحتاج إلى تثمين ووضع برامج إبداعية وابتكارية رائدة لاستغلالها في التنمية الجهوية وفي مواكبة “الطفرة التنموية” الوطنية والمساهمة فيها، حسب وصف تقرير وكالة “رويترز”.

لا شيء يغني عن العودة إلى تفعيل مخططات الجهوية المتقدمة، وتسريع جميع العمليات المبرمجة لإرسائها وإطلاق جيل جديد، لا نقول من الإصلاحات، بل من الأعمال المواكبة وأشغال التنزيل والتفعيل، تلك هي الدينامية المطلوبة، وليس دينامية توليد المصطلحات وتجديد اللغة وتشقيق العبارات والمفاهيم الخطابية، وإعادة التشخيص والتقليب.

إن الجديد الذي نبحث عنه ويترقب المواطنون وعموم الشباب رؤيته في معيشهم اليومي وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية، يتمثل في تحسن شروط العيش الكريم وتحسن الخدمات الإدارية والصحية والتعليمية، وتيسر الولوج إليها لجميع الفئات والجهات بدون استثناء، آنذاك يمكننا الحديث عن أنه “لا أحد قد تخلف عن ركب التنمية”، وأن المغرب التنموي والديمقراطي والحقوقي لم يخلف وراءه مهمشا ولا محبطا ولا محروما، ولم يَجُرَّ خلفه جهات مثقلة بالتخلف والتأخر، الأمر الذي يقتضي توحيد إيقاعات التنمية والسير بسرعة جماعية واحدة أو متقاربة، بدل السير بالطفرات والقفزات الفردية والمفردة التي تستفيد منها فئة وجهة دون باقي الفئات والجهات.

مشروع القطع مع مظاهر التفاوت والتباين والفوارق الطبقية والمجالية الصارخة، أو على الأقل التخفف منها، يعتبر في حد ذاته استثمارا كبيرا وضخما في التنمية الوطنية، يحتاج إلى تضافر جهود القطاعات الحكومية والمقاولات الإنتاجية والأبناك والفاعلين من المجتمع المدني والهيئات السياسية والنقابية والجمعوية لتيسير إرسائه، حتى تكون انطلاقة النموذج التنموي الجديد بغير عوج ولا تعثر ولا ارتباك.

إن ما صرحت به إحدى النساء القرويات المستجوبات في تقرير وكالة “رويترزط، في قولها: “لا ماء ولا كهرباء …وليس لدينا ما يكفي من ملابس وأحذية”، كاف لاستنتاج أن الطفرة التنموية المغربية لم تصل بعد إلى هذا الطرف من الجسد المغربي الذي لا يزال يشدنا إلى بدايات البشرية في العراء والخلاء.

اترك تعليقاً

Share via