الفردوس يكتب : الإجهاض الموازي

الفردوس يكتب : الإجهاض الموازي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

 

بفضل العطف الأبوي والرأفة الإنسانية والعفو الملكي السامي عن الشابة هاجر الريسوني وخطيبها ومن معها من الطاقم الطبي، المتابعين قضائيا في ملف الإجهاض السري وإقامة علاقات جنسية خارج الزواج، تم نزع فتيل أزمة اجتماعية وحقوقية تطايرت شرارتها في أرجاء المعمور، وهددت النسيج الاجتماعي بالانقسام حول ثوابته ومشروعه المجتمعي، وأعادت من جديد طرح سؤال مفهوم الحريات الفردية في بلادنا ومضمونها وسقفها، ومدى استجابة المشرع للتحولات الجديدة التي تعتمل في قلب المجتمع، وللمطالب الفئوية بتوسيع هذه الحريات لتشمل الإتيان بتصرفات وبسلوكات يدينها القانون ويتحفظ منها المشرعون، وتمس بالتعاقدات المجتمعية والقيم الدينية السائدة، من مثل مسمى الحق في المجاهرة بالإفطار في شهر الصيام، والسكر العلني، ومسمى الحق في إقامة علاقات رضائية جنسية خارج مؤسسة الزواج، وإقامة علاقات جنسية مثلية، ومسمى الحق المطلق في الإجهاض، وغيرها مما يتوجس منه الرأي العام الوطني وتجرمه قوانينه وشرائعه، ويتم إدخاله في العرائض الاستنكارية والاحتجاجات الحقوقية والكتابات المؤيدة والشعارات الداعمة والمناصرة، تحت مسمى الحقوق الفردية التي يتعين على الحقوق العامة أن تحترمها، وألا تنتهكها بتجريمها أو بإدانتها أو بتعريض الآخذين بها للمساءلة والمعاقبة، ومن ثمة المطالبة بكف يد المشرع ويد الأمن ويد القضاء عن تدخلها في الحياة الشخصية والفردية للمواطن.

ولعل فترة الهدوء والارتياح التي أعقبت العفو الملكي السامي عن الخطيبين، في ما قد يكونا ارتكباه من خطأ يعاقب عليه القانون، لحسن الظن بسلامة قصدهما إلى توثيق زواجهما وبناء أسرة، أن تكون فرصة لمناقشة هادئة للنموذج المجتمعي المغربي الضامن للحريات الفردية لجميع أبناء الوطن، بما لا يتصادم مع حرياتهم الجماعية، ومع حريات الآخرين. وذاك أن كثيرا من الخلط والتلبيس والاشتباه والتسييس والتجييش قد اكتنف ملف الإجهاض وأخرجه من إطاره التشريعي العام إلى إطار فئوي يروم إضفاء الطابع الحقوقي على ممارسات غير أخلاقية تلحق ضررا بالعلاقات الاجتماعية وبالعلاقات بين أفراد المجتمع نفسهم، وهو الضرر الذي يسعى القانون ومعه القيم الدينية للمجتمع إلى رفعه، وإلى تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع على أساس من الحقوق والواجبات.

وللتاريخ والاعتبار نذكر أنه سبق لجلالة الملك محمد السادس أن تدخل بتحكيمه السامي في ملف تقنين الإجهاض حينما طرح عام 2015 واحتد النقاش حوله، فأمر لجنة مكونة من وزير العدل آنذاك، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بإطلاق مشاورات موسعة بهدف مراجعة القوانين المنظمة للإجهاض في البلاد، وزودها بتوجيهاته لإعداد تصورها، ثم استقبل هذه اللجنة بعد انتهاء مهمتها في العام نفسه، حيث عرضت على جلالته نتائج وخلاصات المشاورات بشأن موضوع الإجهاض، فأمر جلالته كلا من وزير العدل آنذاك، ووزير الصحة بالتنسيق بينهما، وإشراك الأطباء المختصين، من أجل بلورة خلاصات المشاورات في مشروع قانون وعرضها بعد ذلك على مسطرة المصادقة، وذلك “في إطار احترام تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والتحلي بفضائل الاجتهاد، وبما يتماشى مع التطورات التي يعرفها المجتمع المغربي وقيمه القائمة على الاعتدال والانفتاح، وبما يراعي وحدته وتماسكه وخصوصياته” كما جاء في بلاغ الديوان الملكي آنذاك.

ويتبين من خلاصات مشاورات اللجنة أن مسعى تقنين الإجهاض قد كسب معركة إباحة الإجهاض في حالات محدودة ومعقولة، ويمكن أن تكون مقبولة مرحليا في انتظار توسيعها وشمولها حالات أخرى تتطلب رفع الضرر والحرج، غير أن الفاعل السياسي الحكومي والبرلماني، بعد مصادقة الحكومة السابقة في فترات نهاية ولايتها عام 2016، على مشروع هذا القانون، تم تسليمه لمصيره المجهول والغامض الذي راوح به مكانه بين الحكومة ولجنة العدل والتشريع البرلمانية، دون أن يمر إلى جلسات العرض على التصويت البرلماني.

وإلى غاية اليوم، وبعد أن تجدد النزاع حول معضلة الإجهاض وحول وقائعه المعروضة على المحاكم، وامتدت شرارته إلى تهديد الصورة الحقوقية والديمقراطية لبلادنا، لم تحرك الحكومة، ولا اللجنة البرلمانية المسؤولة عن تحضير هذا القانون للتصويت عليه وتجويده، ساكنا، وفيما الجميع يدفن رأسه في الرمال، لغياب الشجاعة والنجاعة في التدخل والإقناع، وتسريع وتيرة نزع الفتائل المشتعلة والمفتعلة على جنبات مشروعنا المجتمعي الديمقراطي والحداثي والتنموي، فإن الفراغ الآن يشغله التشويش والشغب بين فئتين تصران من جديد على تقسيم المجتمع إلى رجعيين ماضويين وتقدميين ثوريين، ومحافظين متطرفين وحداثيين منفتحين. ويتم خوض معارك مجانية تتجاوز مشكل الإجهاض، إلى إثارة القلاقل، واستفزاز المشاعر، معارك لا تكاد تنتهي إلا بتكلفة اجتماعية وسياسية وحقوقية ثقيلة، على حساب الحكمة المغربية المعتدلة والمنفتحة والتوافقية التي سارت على نهجها جميع الاستحقاقات الإصلاحية العميقة والكبرى التي قادها جلالة الملك بتؤدة وشجاعة. ولنا في إصلاح مدونة الأسرة خير درس على النجاحات الباهرة التي حققها التحكيم الملكي، في رفع الحرج وفي الاجتهاد الموفق والمقبول من الجميع، وفي تحقيق طفرة حقوقية وثورة اجتماعية هادئة، مست في العمق البنى الذهنية الراكدة، وحافظت في الآن نفسه على ثوابت الأمة ومقدساتها، وكان لمقولة جلالته آنذاك وقعها الكبير وهو يزف إلى الأمة عبر خطاب افتتاح الدورة البرلمانية لعام 2003، نتائج وخلاصات الاجتهاد المغربي ممثلا في اللجنة الاستشارية لاقتراح المراجعة الجوهرية لمدونة الأحوال الشخصية: ” لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين، أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله”، وكانت الإصلاحات العميقة والجوهرية التي مست مدونة الأحوال الشخصية، التي لم يكد أحد يجرؤ أن يقترب منها قبل ذلك دون أن يشعل فتنة جارفة، قد أوفت بشرطي الأخذ بمقاصد الشريعة الإسلامية في تكريم المرأة، والحفاظ على حقوق الإنسان، وإقامة العدل والإنصاف، بالانسجام التام مع روح العصر ومع شعائر الدين الحنيف.

يمكننا السير على هذا النهج الناجح والناجع في معالجة نوازل الحريات الفردية، إذا خلصت النوايا من الأغراض والأجندات المشبوهة، وإذا تجنبنا التلبيس والتغليط، والرغبة في التشريع لفئة من الأمة دون أخرى، والحال كما نبه إلى ذلك جلالته في الخطاب الآنف ذكره، فإنه “بصفتنا ملكا لكل المغاربة، فإننا لا نشرع لفئة أو جهة معينة، وإنما نجسد الإرادة العامة للأمة، التي نعتبرها أسرتنا الكبرى”.

ليس المشكل في الإجهاض المعروف الذي يمكن للمقاربات المغربية الحكيمة والهادئة أن تباشر بشجاعة ووضوح تامَّين العمل تشريعيا وحقوقيا على تقنينه ورفع أضراره، وإنما في إجهاض آخر مواز هو إجهاض حلم وطن في التعايش والتعاون والتضامن واحترام الحريات والحقوق والواجبات، وحلم أن يكون الجميع سواسية أمام القانون، وأن تكون طبقته السياسية والثقافية والدينية في مستوى المسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتقها للرقي بوعي المواطنين بحرياتهم وبحدودها التي لا ينبغي أن تمس بحريات بعضهم بعضا، واحترام القوانين المرعية بدل التشجيع على ثقافة التمرد عليها والتحلل منها، وخرقها بشعارات جوفاء وبراقة ظاهرها الحرية والحقوق والأخلاق والقيم، وباطنها الانقلاب على المجتمع وضرب استقراره وأمنه الثقافي والروحي.

اترك تعليقاً

Share via