الفردوس يكتب : المشكل أعمق من ذلك ..
بقلم : الاستاذ عبد الله الفردوس
ليست الفضيحة الكروية التحكيمية التي جرت بالملعب الأولمبي (رادس) بتونس، والذي استضاف فريقي الترجي التونسي والوداد الرياضي المغربي برسم مباراة الإياب لنهائي دوري أبطال إفريقيا لكرة القدم، مساء الجمعة 31 ماي 2019، بفضيحة تذكر مقارنة مع تداعياتها الفضائحية الكبرى وغير الصحية على العلاقات بين شعبي البلدين، إثر انحراف الجدالات والنقاشات وردود الأفعال عبر وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي عن إطارها الرياضي المحض، وتحولها إلى حرب كلامية لم تستهدف فحسب سياقات إجراء المباراة وأخطائها التحكيمية، وإنما انزلقت إلى النيل من العلاقات التاريخية بين أشقاء يتواجدون في خندق واحد وتجمع بينهم روابط دينية وقيم حضارية وصلات جغرافية عميقة.
ففي لمح البصر وبجرة لسان تم العصف بكل مكتسبات الأخوة والشراكة والتعاون، لينفتح المجال أمام سيل من الشتائم والإهانات والاستفزازات التي انخرط فيها الرياضي والسياسي والإعلامي، مخلفة جراحا عميقة في الذاكرة الجماعية للبلدين، واندهاشا من منسوب العنف الذي رافق الجدال الرياضي.
لقد مضت قرابة أسبوعين على هذا الحدث الرياضي، الذي رفع ملفه إلى الجهات التقريرية والتحكيمية الإفريقية والدولية طلبا للتحقيق والإنصاف، ورفع المظلمة سواء عن الفريق المستضيف أو عن الفريق الضيف، حيث قررت اللجنة التنفيذية للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم إعادة إجراء مباراة الإياب بين الفريقين المحليين التونسي والمغربي في بلد محايد، وإعادة الكأس والميدايات التي استلمها الفريق التونسي، كما قرر هذا الأخير اللجوء إلى محكمة التحكيم الدولية للدفاع عن حقه في التتويج بلقب دوري الأبطال الإفريقية الذي تم تجريده منه، وإلى هنا يكون موضوع هذه المنافسة الرياضية التي شابتها أخطاء وخروقات مؤكدة وبادية للعيان، بين أيدي المؤسسات الإفريقية والدولية التي يتحتم عليها أن تكون في مستوى النزاهة والشفافية التي تحكم تطبيق القوانين الرياضية الكروية، والحرص على سمعة اللعبة الرياضية الأكثر شعبية في العالم، والأكثر انضباطا لقواعد اللعب النظيف والشفاف والسليم، ونموذجا للتدريب على مبادئ المنافسة الشريفة، وتقبل نتائجها بروح رياضية طالما خلت مما يفسدها من تدخلات غير أخلاقية وممنوعة أو خروقات تقنية وتدبيرية غير قانونية.
هكذا لعبة كرة القدم في جوهرها وروحها الكونية التي جمعت شعوبا ودولا على التربية على التنافس الشريف واللعب النظيف، والجدال الرياضي الذي يرفع من قيمة السلوك المدني الإيجابي، لكن لثقافتنا الرياضية الهشة والمهزوزة في عالمينا العربي والإفريقي، رأي آخر في هذه المنافسة الرياضية، التي تحولت بفعل ثقافة لم تستوعب الفعل الديمقراطي والحقوقي داخلها، إلى ساحة حرب مفتوحة تأتي على الأخضر واليابس، وتخلط الهزيمة الرياضية السجالية لفريق، بالإهانة لشعب برمته وبالانتكاسة الاجتماعية والانحدار في سلم الرقي والنجاح، كما تخلط النصر الرياضي المحصور في دائرته وإطاره الضيق، بانتصار سياسي وعسكري على عدو لدود. لذلك تستمر معركة ما بعد المباراة بالقصف وكيل الاتهامات والشتائم وصناعة أشكال من الكراهية تقف حجر عثرة أمام أي إصلاح فكري أو ثقافي في المنظومة الأخلاقية المدنية للشعوب والجماعات والأفراد.
تلك هي الفضيحة الأخلاقية والتربوية الكبرى التي تكشف عنها الفضائح الرياضية الكروية الصغرى، والتي تجعل المسافة التي تربط شعوبنا بالمدنية الحديثة مسافة ضوئية، وتعمق الهوة بين تخلفنا وتقدم غيرنا. لقد كشفت هذه المباراة الإفريقية وتداعياتها بين فريقين إفريقيين وعربيين ومغاربيين، عن حجم التخلف عن الركب الحضاري الذي نخطئ مواعده واستحقاقاته بانفعالات أغلبها صادرة عن إحباطات ثقافية وعقد نفسية وجراحات في الذات العربية والإفريقية مستعصية على العلاج، وتحتاج إلى التربية على الحوار والتواصل والحق في الاختلاف.
لن تكون التداعيات السلبية لمباراة الترجي التونسي والوداد المغربي، هي الأولى في نسيجنا الثقافي الرياضي، فقد سبقتها مباريات إفريقية وعربية انتهت إلى العداوة والبغضاء والبذاءة والغباوة والأحقاد بين شعوب ودول المنطقة، من مثل المباراة الكروية بين المنتخبين المصري والجزائري برسم إقصائيات كأس العالم 2010، استعملت فيها أقذع الألفاظ العنصرية والعبارات البذيئة، وأقصى درجات العنف ضد الأشقاء. ولن تكون الأخيرة ما دامت كل عناصر تكرارها متوفرة وكامنة في اللاشعور الجمعي لشعوب لا يتجاوز إيمانها بمصيرها المشترك وبمصالحها الحيوية الشعارات التي ترفعها، فيما هي عاجزة عن تحويل الشعار إلى مبادئ وقيم وقواعد سلوكية راسخة ومكينة، بل تبدي من خلال الجماهير الرياضية المشجعة، استعدادا منقطع النظير لتفجير مشاعر الكراهية والعنف والتهديد، وخلق توترات تتجاوز الخسارة الرياضية وتنزاح عنها إلى خسارات سياسية تترك ندوبا في الجسد الثقافي الجماهيري المثخن بتربية لا تعرف للروح الرياضية معنى ولا طريقا.
وإذا كانت التربية على الثقافة الرياضية تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن الانفلات الجماهيري والزج بالمشجعين في أتون معارك غير رياضية خاسرة ومكلفة، وذلك بغياب هذه التربية عن الحياة المجتمعية للأطفال والشباب كتأطير وممارسة وسلوك في المدرسة والحي والأسرة، فإن المؤسسات الراعية لهذه الرياضات على الصعيدين العربي والإفريقي تتحمل قسطا آخر من المسؤولية بسبب فشلها في الحفاظ على قوانين اللعبة، وتكوين حكامها على مبادئ الحياد وقواعد النزاهة والشفافية التي تفرض عليهم أن يكونوا بمعزل عن التأثيرات والضغوط غير الرياضية في أداء مهامهم النبيلة في تدبير اللعبة الرياضية في ملاعبها وميادينها، كما يتحمل رجال الإعلام والفن والفكر والثقافة والسياسة، مسؤولية أخرى في النأي بأنفسهم عن السقوط في الابتذال، والانجرار وراء ردود الأفعال المجانية والغوغائية، وأن يكونوا مثالا يحتذى في الحكمة والتعقل في التعامل الراقي والحضاري مع نوازل وأحداث من هذا النوع، والتي لا ينبغي إطلاقا أن تنساق مع التهييج والتشنج والسعار، وهي تدرك حجم التكلفة السياسية والاجتماعية لهذا الانسياق الذي يتطلب وقتا طويلا لمحو آثاره التخريبية وتشوهاته الغائرة.
من حق المحتج على ظلم أو خرق للقانون الرياضي أن يعبر عن ذلك، وأن يلتمس سبل إصلاح خطأ أو رفع ضرر، بالاحتكام إلى المؤسسات وإلى القوانين المنظمة، لكن ليس من حق أحد أن يحول فرجة رياضية إلى مأساة للشعوب ولمشتركها الإنساني والحضاري والتاريخي، وأن يتعدى بهذه الفرجة إطارها ويزيغ بها عن سياقها التنافسي الضيق، ليعلن أمام العالم عوار أمة وأعطابها النفسية وتخلف وعي نخبها وجماهيرها.
ومهما يكن من انعكاسات الجدل الحالي الدائر حول تداعيات مباراة فريقي الترجي والوداد، ومن نتائج إعادة مباراة الإياب، فإن من حسناتها أن تدفع البلدان العربية والإفريقية، إلى مراجعات عميقة للسياسات الرياضية وللتربية والثقافة الرياضيتين، ولقوانين المنافسة الشريفة والنبيلة في هذا الميدان، وإلى محاربة الفساد الرياضي، وإلى تكوين حكماء وحكام الرياضة تكوينا أخلاقيا وتقنيا مغايرا، يسهم في التقارب بين الشعوب وليس في فتنتها وتحطيمها.